مأساة البشرية الكبرى تكمن فى تنشئة الفرد على العيش فى منظومة من الأكاذيب، ترفعها بعض الجماعات إلى مستوى الحقائق وتزرعها فى نفوس أبنائها لتمتد جذورها إلى أعماق سحيقة يصعب اقتلاعها. على مستوى الأسرة ينشأ غالبية الأطفال على خدعة الاعتقاد بأن العالم خارج محيط أسرهم هو الشر المطلق، وأن آباءهم وأمهاتهم نماذج للخير، وما عدا ذلك باطل وشرير. على مستوى خداع الشعوب ينشأ الفرد على الاعتقاد بأن أسلافه حملوا كل الخير للبشرية وأن أعداء بنى جنسه يتصفون بكل خسة وغدر وقبح. هذا التعميم المخل يؤدى إلى الكفر بالأسرة والمجتمع عندما يصطدم الفرد بتجربة تؤكد له أن خصومه بشر طبيعيون يمتلكون المواهب والقيم وقد يبرعون فى ما يعجز عنه. على مستوى الانتماء العقائدى والسياسى ينشأ عضو التنظيم على الإيمان بأن كل نظرية أو فكرة خارج تعاليم تنظيمه تسبح فى الضلال وتوغِل فى الشر والبطلان. قلائل هم الناجون من تلك الخطيئة المضللة التى ترفع تنظيراتها لمكانة لا يطالها التقييم العلمى للأمور، ولا تسمح بدراستها بحياد وموضوعية. هذه القناعات المطلقة المستقرة تسحق روح الإبداع والتفكير الحر لدى الأفراد والجماعات، وتؤدى فى النهاية إلى عزل أصحابها داخل كرة زجاجية معقمة تمثل درعا يقى الفرد والمجموع من كل ما يعتقد التنظيم أنه يمثل جرثومة شريرة لفكرة مختلفة يجب تدميرها على الفور. انظروا إلى عضو تنظيم الإخوان، علا شأنه أم صغر، بدءا من كبيرهم بديع مرورا بمحمد مرسى، وانتهاء بأصغر متعاطف لم يحز شرف عضويتهم بعد. كلهم يبررون لأنفسهم ولرفاقهم ممارسة العنف والكذب، ويرفعون سيف القانون فى وجه من يمارسهما حتى وإن كان سلوكه مجرد رد فعل لعنفهم وكذبهم! المجتمع المثالى المبرَّأ من الخطأ الذى يستحق أن نسحق خصومنا من أجل تحقيقه أكذوبة لا توجد إلا فى خيال أصحابها المريض، تدفعهم إلى الإيمان بأن الغاية تبرر الوسيلة. المجتمع الوحيد الذى يستحق أن نبذل كل جهد مشروع من أجل الوصول إليه هو المجتمع الذى يسمح للجميع بتداول أفكارهم لكى تتصارع فى إطار من الحرية يسمح للناس باختيارها أو رفضها دون تزييف للحقائق وغسيل للأدمغة. حتى هذا المجتمع ليس مثاليا فى حقيقة الأمر! لكنه أقل شرا بالقطع من مجتمعات تقودها تنظيمات تسوق البشر كالقطعان، ولا تسمح لهم بحرية الاختلاف وتناول الأفكار وفحصها تحت مجهر ومصابيح المعرفة. الأمر واضح بما يكفى ولا نحتاج إلى عقد مقارنة بين السويد والصومال لنثبت وجهة نظرنا. أسوأ الأنظمة البشرية فى التاريخ هى التى تعمل على تغيير تركيبة مؤسسات الدولة لاحتكارها واستخدامها لتحقيق مصالحها السياسية لضمان استمرارها فى السلطة، وحرمان خصومها من إمكانية الوصول للحكم حتى لو أرادت الجماهير اختيارهم مستقبلا. اختطاف مؤسسات الدولة لمنع إمكانية الانتقال السلمى للسلطة هو المدخل الأول للعنف لأنه يجعل منه الطريق الوحيد للتغيير. كيف يتباكى الإخوان المسلمون على تبنى الشباب المعارض لهم للعنف بعد أن بادروا هم به أولا؟! مناخ الحرية الاجتماعية والسياسية وانفصال مؤسسات الدولة عن جميع الأنظمة لخدمة كل التيارات بحياد مطلق هو المناخ الوحيد الذى يضمن انحسار العنف المجتمعى. عندما يضمن لك القانون حقك لن تحتاج إلى رفع سلاحك فى وجه خصومك. عندما تتحول المدارس إلى منارات محايدة للعلم لا تحشو عقول صغارك بما يتناقض مع القيم الإنسانية، ولا تقلل من شأن معتقداتهم الدينية لن تلجأ الأقليات إلى العمل السرى وممارسة العنف على اختلاف مستوياته. الدولة الناجحة لا ينبغى أن يقودها من يعملون على تسييد رؤيتهم للدين والحياة بقمع كل الرؤى المغايرة لهم. تحدث المأساة عندما تقاد المجتمعات الإنسانية بفصائل سياسية ترى الصواب المطلق فى ممارساتها، وتغمض عينيها وتتعامى عن أخطائها لتلصق بخصومها كل نقيصة تقوم هى بممارستها. هنا يتطور الأمر من خصومة بين رأيين إلى خناقة بين عاهرة تتهم جارتها كسيرة الجناح بمعاشرة الرجال! كيف لرئيس دولة لا يحترم القانون وتمارس جماعته العنف ضد خصومها أن يطالب معارضيه بأن يكتفوا بالتعبير عن اختلافهم معه فى إطار القانون؟! محمد مرسى عضو فى جماعة غير قانونية، تدير أمورها المالية والتنظيمية فى إطار من السرية رغم علانية وجودها. قام مرشدها العام وبعض قياداتها بإعلان ما أسموه بالنفير العام لتجميع أعضائها الذين مارسوا العنف المنظم فى واقعة الاتحادية الشهيرة ضد خصومها. بعد كل هذا يأتى النائب العام، الذى اختاره رئيس الدولة منفردا ضاربا بالنظام القانونى عرض الحائط، ويقوم بإصدار قرار بضبط تنظيم شبابى معارض (بلاك بلوك) بدعوى أنه يمارس العنف! ازدواجية المعايير والتخبط فى القرارات لا يصنع دولة ناجحة محترمة. الكيل بمكيالين لا يمارسه إلا من يتوهم امتلاك الحق المطلق، ويعيش بعيون مغمضة فى فقاعة مفرغة من المنطق، تملؤها أكاذيب التفوق الذى يدحضه الواقع ولا يعشش إلا فى عقله فقط. لا نريد مجتمعا يرسخ للضلالات ويقدسها. لن ينهض مجتمع تحكمه جماعة تعطل القانون، وتبرر لنفسها العنف، وتجعله مشروعا عندما تمارسه ميليشياتها تحت رعاية شرطتها التى تضرب خصوم الجماعة الحاكمة بدعوى أن عنفهم يعد خروجا على الشرعية! الدولة التى يؤسس لها الإخوان أسوأ من الدولة التى ثرنا ضدها. نريد دولة يحكمها من يستحق شرف خدمة شعبها ولا يغمض عينيه، ويصدق أكاذيبه هو وجماعته، ويتعجب لأن الناس لا تصدقها مثله! عورة نظام مرسى لم يكشفها سحل شرطته لمتظاهر جردته من ملابسه، بل كشفها تسبيحه بحمد الشرطة واتهامه للمتظاهرين بضربه بعد أن رأى العالم ما حدث له على الهواء!