ربما كان البعض يراهن على أن نزول الجيش فى مدن القناة المشتعلة بالغضب، سوف يتيح الفرصة لصدامات بين الجيش والمواطنين تستنزف القوات المسلحة، وتضاعف الخطر على الدولة، وتبعد الأنظار عن فشل الحكم الذى قاد مصر إلى هذه الأزمة الخطيرة. لكنه رهان خائب.. فلا توجد منطقة تتجسد فيها العلاقة التاريخية بين شعب مصر وتاريخه الوطنى مثل هذه البقعة الطاهرة على ضفاف قناة السويس، هنا امتزج الدم بالدم فى معارك الدفاع عن استقلال الوطن على مدى السنين.. هنا كانت التحديات العظمى وكانت الإنجازات التى لم تكن تتحقق إلا بشعب مقاتل وجيش لا يعرف ولاء إلا للوطن. هناك كان يرابط ثمانون ألف جندى بريطانى فى أكبر قاعدة عسكرية فى المنطقة، وقبل ثورة يوليو كانت المقاومة الشعبية تشتعل، وكان ضباط الجيش فى قلبها.. يدربون عناصر المقاومة ويوفرون السلاح ويضعون الخطط.. وبعد يوليو تغير الموقف وأصبح على جنود الاحتلال أن يواجهوا مقاومة الجيش والشعب معا.. أو يرحلوا. هنا على هذه الأرض الطاهرة كانت استعادة قناة السويس من مغتصبيها، بعد قرار شجاع من قائد ثورة يوليو، وبعد حرب خلدت اسم بورسعيد فى التاريخ، وبعد آلاف الشهداء الذين كتبوا بدمائهم وثيقة عودة الكرامة مع عودة القناة للوطن. هنا على هذه الأرض الطاهرة احتضن الأهل أبناءهم من جنود جيش مصر بعد هزيمة لا يستحقونها ولم يتسببوا فيها عام 67، وهنا بدأت رحلة الثأر من هذه الهزيمة بعد أيام من شرق بورسعيد فى رأس العش، لتكون بداية الفجر القادم رغم كثافة الظلام. هنا فى أرض القناة.. تقاسم المدنيون والجنود لقمة العيش وكوب الشاى فى أيام الصمود الرائع، وفى سنوات الجمر التى خضنا فيها حرب الاستنزاف التى كتبنا فيها صفحات من البطولة، لم تفرق سطورها بين الجندى والعامل، ولم تفرق قنابل العدو بين معسكر حربى ومصنع مدنى أو حتى مدرسة للأطفال. من هنا كان العبور العظيم، وكانت ملحمة أكتوبر، وكان صمود السويس، وكان قلب الوطن ينبض جيشا وشعبا، يحرس النصر الذى تحقق بتضحيات الملايين وبدماء الشهداء، وحين سرقوا ثمار النصر من أصحابه، فلا شك أن المرارة لم تفرق هنا أيضا بين جيش وشعب!! واليوم.. حين تنزل قوات الجيش لمواجهة الموقف الخطير فى مدن القناة، فإنها تعرف أنها مع رفاق الدم من أهل القناة فى خندق واحد، تقدر أسباب غضبهم وتعرف أنهم يثورون لأنهم يشعرون أن كل ما ناضلوا من أجله وما ضحوا فى سبيله أصبح فى خطر.. استقلال الوطن فى خطر، الدولة ومؤسساتها فى خطر، الثورة التى فجرها الشعب وحماها الجيش تتم سرقتها، لقمة العيش ومستقبل الأبناء فى خطر، حتى قناة السويس التى استعادوها بأغلى التضحيات يتحدث «البعض» عنها وكأنها فرع من سلسلة محلات «سوبر ماركت» يملكونها!! أو كأنها الجائزة الكبرى التى يدخرونها ل«الكفيل» العربى أو الأجنبى.. لا كان «الكفيل» ولا كانوا هم على وجه الحياة لو اقترب الخطر من القناة. فى مدن القناة.. يولد الناس وهم يعرفون أنهم على خط النار، ويعيشون وهم يدركون أنهم فى قلب الخطر، كل أسرة كان منها شهيد، وكل بيت يحمل آثار سنوات الجمر وقنابل الأعداء، وكل صدر يتنفس الهواء فى وطن حر يعرف أنه دفع الثمن غاليًا.. ولهذا يجىء طوفان الغضب من هناك، ويجىء الرفض لسياسات الحكم الفاشل التى تقود مصر إلى الكارثة. حين تكون على خط النار فإن صرختك هى الأصدق.. هكذا كان الأمر فى معركة الشرطة ضد قوات الاحتلال بالإسماعيلية التى فتحت الباب لثورة يوليو، وهكذا كان الأمر مع بورسعيد وهى تهزم أكبر إمبراطوريتين استعماريتين فى ذلك الوقت، وتعطى بدماء أبنائها التصديق النهائى على قرار عبد الناصر بتأميم القناة، وهكذا كان الأمر مع السويس وهى تكتب شهادة الوفاة لطموح إسرائيل فى تجنب الهزيمة فى 73. حين تكون على خط النار، فإن صرختك هى الأصدق، مدن القناة صرخت بالغضب، جيش مصر فى مدن القناة.. مصر -بجيشها وشعبها- تنتظر الخلاص من كابوس الفاشية التى تقود مصر إلى الكارثة!!