كانت المسيرة تضم أعدادًا غفيرة من الشعب، وكنت مع صديقاتى نتابع السير مراعيات أن نظل فى أقرب مكان للسيارة المكشوفة التى تحمل السماعات والميكروفون ومَن يقود الهتاف، كانت أغلب الهتافات جديدة ومؤثّرة، لكن هتاف «عاش الشعب المصرى عاش.. للإخوان ماسلّمناش» أكثرها تأثيرًا علىّ، هتف به خالد السيد ورددناه وراءه بمنتهى الحماس، مشيرين بأيدينا تحية إلى شعب البلكونات، معنى الهتاف قوى وعميق، فعلًا الشعب المصرى لم يستسلم للإخوان ولا سلّم الثورة لهم، واستطاع الشعب أن يفرّق بحدسه بين الثورة وبين الإخوان الذين حاولوا بمختلف الطرق أن ينسبوها إلى أنفسهم. ربما لا يعرف الشعب مَن هو خالد السيد ولا كمال خليل ولا نور الهدى زكى ولا أحمد دومة، الذين كانوا يهتفون، ربما لا يعرف الشعب الاشتراكيين الثوريين ولا حزب التحالف الشعبى ولا النقابات المستقلة، الذين يدافعون عن حقّهم فى الحياة الكريمة، وربما لا يفهم معنى هذه الرايات المرفوعة. لكنه أدرك بخبرته أن هؤلاء جميعًا بلا مطامع. فاحتضنهم واشترك فى مسيرتهم وردد هتافاتهم. الشعب المصرى الذى رأيته أمس فى المسيرة كان يعرف أن المسيرة يمكن أن تضرب بالغاز والخرطوش فى أى لحظة، أو تتعرض لهجوم «مواطنين شرفاء» بالأسلحة، رغم ذلك ظل «شعب المسيرة» يسير فى شوارع وحوارى السيدة من الساعة الرابعة حتى السادسة والنصف عندما تم تفريقها على الكورنيش، وكان الشعور بالأمان يطغى على الشعور بالخوف ويهزمه، كان الأمان مستمدًا من وجودنا معًا، كنا شعبًا حقيقيًّا بكل تنوعه. فى لحظة المواجهة مع الشرطة لم أكن فى المقدمة، لذلك رأيت فقط المصابين المحمولين، وسمعت: صدمتهم مدرعة.. دهستهم مدرعة.. ضربتهم مدرعة. وظلت أصوات طلقات الرصاص تتردد فى المكان ونسمعها لفترة طويلة بعد أن دفعنا الشباب دفعًا لأن نترك شارع الكورنيش ونختبئ فى شوارع جاردن سيتى المهجورة من سكانها والمحاطة بالأسوار من كل جهة. مع كل صوت كنت أتخيّل مصابًا جديدًا أو قتيلًا، وأتذكر «للإخوان ماسلّمناش» وأردد «الشرطة سلّمتنا»، رغم أن الإخوان «سلّموا» الشرطة فى نفس الوقت. ولو استمروا «هيسلّموا» مَن استلموا. فعلًا عاش الشعب. بعد ساعة رأيت المدرعة تحترق فى ميدان التحرير على شاشة التليفزيون، «ياه.. أكيد دى المدرعة اللى صدمت الشباب». على فكرة أدان كثيرون من شعب المسيرة العنف، وأغلبهم كان يتمنى أن يكون رد فعل الشباب أن يترك المدرعة تدهسه وأن يتحمّل الغاز والخرطوش حتى يشكرنا الإعلاميون على الفضائيات فى اليوم التالى ويتغنون بجمال السلمية. أما أنا فموقفى من العنف والسلمية أصبح معقّدًا ويحتاج إلى شرح طويل.