«دى ثورة.. مش حفلة».. هتاف يرج مدخل ميدان التحرير، يردده عشرات الألوف من المصريين المشاركين فى مسيرة 25 يناير القادمة من مصطفى محمود، التى جالت فى شوارع المهندسين للحشد وللتوعية وللتذكير وللتحريض على التفكير والإحساس بأن هذه المسيرة وما شابهها فى مسيرات الجمهورية ليست بغرض الاحتفالية ولكن بغرض الاستمرارية الثورية. تأكيد هذا الهتاف والتذكير بالشهداء وبالإهانة التى تعرض لها المصريون خلال ثلاثين عاما الماضية واستمر العسكر فى مواصلة الإهانة خلال الشهور الماضية وأعرب عن وجه السلطة الذى لا يؤتمن والذى يجعل مئات المصريين ممن ثاروا وساروا فى مسيرات 25 يناير 2012 خائفين ومتشككين وغير واثقين، وهو المطلوب إثباته أخيرا، بل وهذا ما يجعلنى متفائلة بأن أهم مكتسبات الثورة هو أن المصريين قد فهموا وأنهم غير مستعدين للتفريط فى بلدهم أو ثورتهم مرة أخرى، وأن سياسة « الضرب على القفا» لم تعد مجدية على الإطلاق. بالأمس فى 25 يناير 2012 كنت هناك بصحبة الذكريات واسترجاعها، استعادة 28 يناير 2011، جمعة الغضب، ذلك اليوم الذى أفهمنى يعنى إيه «مصر والمصريين» من جديد، كنا بصحبة مشهد عسكر الداخلية، الغازات، المدرعات، التفريق بالماء، بالرصاص، مشاهد الإصابات على كوبرى قصر النيل، رش المصلين بالغاز والماء، جرحى، ووجوه شباب «مخرّمة» ببلى وكرات الخرطوش، أحد هؤلاء الشباب صورته وصوته زارانى فى أثناء مسيرة أمس وهو محمول بين أيدى آخرين والدماء تسيل من وجهه، وكأنه يحدثنى، لا أعرف لماذا اعتقدت أن عينيه تخاطبنى وهو يقول بمنتهى الإصرار والعناد: «اوعوا تختفوا.. لازم تكملوا»، مناورات ومطاردات مدرعات الشرطة للمواطنين فى محاولة لترويعهم ودهسهم عند نهاية كوبرى الجلاء.. كانت المرة الأولى التى أشاهدها «لايف»، وما تلا هذا اليوم ولشهور طويلة كانت الذكريات تتداعى فى رأسى أو بمعنى أدق كنت فى قرار لاستعادتها، ساعدنى فى استحضار أحداث ماسبيرو، فض اعتصام أبريل بالقوة، مذبحة محمد محمود، مجزرة مجلس الوزراء، تلك الجموع والوجوه المصرية التى دائما تملك المزيد لإدهاشى، صوت جهورى لامرأة وهتافاتها وكأنها من محترفى المظاهرات، والحقيقة أنها من رواد أشهر نوادى مصر، وأنها لم تعرف يعنى إيه مظاهرة إلا فى 28 يناير 2011، وهى نفسها التى تهتف بروعة: «اضرب رجلك طلّع نار، بينّا وبينهم عرض وتار»، وهى التى تقول ويردد خلفها الرجال والشباب والفتيات: «ارفعى راسك ارفعى راسك.. انتى أشرف من اللى داسك».. وتشير إلى الناس فى الشرفات يتفرجون من فوق وتحفزهم قائلة: «انزلوا من بيوتكم.. طنطاوى عرّى بناتكم»، «يا اللى قاعد قاعد ليه.. خدت حقك ولّا إيه؟».. «يا طنطاوى نازلين تانى.. لأجل الثورة دفعنا الغالى.. دم شباب ونور عيون.. لكِ يا مصر كله يهون»، «جوه الشارع جوه الحارة.. شايفينكم بعيون حرارة». المشاهد كثيرة وقادرة على إنعاش وإحياء أى ذاكرة.. يكفى أن تسير فى هذه المسيرة فتقابل نفس الوجوه التى ربما لا تعرفها بشخصها، لكنها أصبحت مألوفة، حيث جمعتكم ثورة ومسيرات واحتجاجات من قبل، ما أروع أن تسمع فتاة تقول لصديقتها: «أنا مش قادرة أصدق إنى كان ممكن يفوتنى اللى حاصل ده، نفسى أكلم كل أهلى ينزلوا معانا».. تجيب صديقتها بثقة: «مش قلت لك.. والله فاتك كتير.. بس حظك إن الثورة مستمرة». تتعرف على شباب يدقون على الدفوف والطبول ويهتفون باسم الشهيد ويرددونها بمنتهى الشجاعة: «يسقط يسقط حكم العسكر.. أيوه بنهتف ضد العسكر».. إنهم نفس الشباب الذين وقفوا أمام السجن الحربى ووزارة الدفاع ليقولوا من أجل كل شاب معتقل عسكريا: لا للمحاكمات العسكرية، هم الذين صوروا وقاموا بتوثيق هذه الحملة الثورية المحترمة الشريفة. من أبدع ثورة 25 يناير 2011، ليس غريبا عليه أن يبدع فى كل احتجاجاته ومسيراته واستكماله ثورته.. أن تسير وتنظر على ماسكات ورقية مطبوعة لوجوه أحمد حرارة وخالد سعيد ومينا دانيال والشيخ عماد عفت وأحمد بسيونى وزياد بكير.. يرتديها السائرون الثائرون خلف رؤوسهم وعلى عيونهم، أفكار سامية سلمية تثير شهوة أى كرامة للصحوة. أربع ساعات من السير والوقوف على الأقدام.. أمر محرض أكثر للشعور بالضآلة أمام استدعاء ذكريات عمن ضحى بحق لأجل هذا البلد. على الرغم من أن الدخول إلى ميدان التحرير لم يعد بهيبة الثمانية عشر يوما، ومن العبث أن نتصور أن شعورنا بالنوستالجيا أو الحنين سيعيد روح الأيام نفسها، فإن اختلاط أسباب كل مواطن للنزول تفقد الميدان بعضا من جلاله ووحدته، هكذا قلت لنفسى بعد قضاء بعض الوقت فى الميدان والتجول بين ناسه، هناك من جاء لهدف الاستمرارية الثورية، ومنهم من جاء للاحتفالية، ومنهم من جاء للمعاينة والفضولية، ومنهم من جاء للمشاركة الصورية. وسط هذا المونولوج من الأفكار والمشاعر.. دائما روح الميدان الحقيقية هى المنتصرة ولو بحدث بسيط، مشهد المسلة الكبيرة التى كتبت عليها أسماء الشهداء تخليدا لذكراهم وهى تدخل الميدان.. تلك المبادرة الفردية لمجموعة من الشباب كانت كفيلة لتأكيد أن أصحاب هذا البلد بلا شك هم ملهمون وعظماء ويستحقون الحرية والعيش والعيشة الهنية.. ولتأكيد أن البقاء سيظل لروح الميدان.