ترتِّل الثورة أناشيدها وتعزف ألحانها بكلماتها المخصوصة القادمة من عقلها الواعى، المدرك شديد الإدراك خطَّ السير والهدف المنشود فى نهاية رحلة التعب والتضحيات، ففى ثلاثية يناير 2011 و2012 و2013 كان هتاف «يسقط» ثم يليه اسم من فى السلطة وقتها، ودائما ما تأتى وهو فى عنفوان قوته وعزة سلطته، ولكننى أظن أن شعارها الأول المرتفع بالعيش والمتمسك بالحرية والمصمم على العدالة الاجتماعية الذى رافقها فى كل دروبها وفضائها ولحظات قوتها وضعفها له تكملة قد تمت بلورتها وهى الآن فى عمر عامين، فأراها حول الشعارات الأولى وخلفها وأمامها، أظن أن هذه التكملة هى كلمة السر التى يمكن أن تنتهى معها فى يوم من الأيام كلمة «يسقط»، فلا تستعجب من الآن يا أخى لو وصل إلى سُدَّة الحكم أحد من المحسوبين على الثورة وخرج الناس المؤيدون لها أيضا وقد وضعوا كلمة «يسقط» وبعدها اسمه، لأن ذلك سيحدث لو لم يلتفت هو الآخر إلى مطلب الناس الأصلى ومحركهم الفعلى حتى وإن لم يأتِ ذلك على شفاههم فى مظاهراتهم. «العدل» سر الاستقرار والأمان ونوم عُمَر تحت الشجرة، سر التطور والتقدم، ركيزة الحكم ورسالة الأديان، انظر فى وجوه أقباط مصر فى المظاهرات وفتّش عن سبب آلامهم وكآبتهم وحديثهم اللا منتهى عن الهجرة، فلا يكاد يخلو بيت قبطى فى مصر من الحديث عنها، ستجده ضيقهم من انعدام العدل الذى يقضى فى فلسفته البسيطة بتحقيق المساواة بين الناس، وهم بالتأكيد لا يشعرون بتلك المساواة رغم تشدق المتشدقين ورغى الراغين، غياب المساواة تلك نفسها هو سر ضيق الكادحين والفقراء فى ذلك البلد وصوتهم يعلو بالعدالة الاجتماعية ولكن المساواة المفسِّرة للعدل لو تحققت، فلو لم يجدوا تمييزا فى القسم والمصلحة الحكومية والمواصلات وغيرها بسبب فقرهم لهوَّن ذلك عليهم أمرهم، ولو لم يروا بأعينهم ثراء أصحاب الأعمال وذوى المناصب دون وجه حق فى كثير من الأحيان لخفف ذلك من ثقل حياتهم، فتجده يصرخ فى المظاهرة «عيش وحرية وعدالة اجتماعية» وفى قلبه يهتف أنِ اعدلوا أنْ طبقوا فلسفة العدل وافتحوا الطريق لتكافؤ الفرص وأزيلوا الفوارق التى نشأت بين الناس بالطرق الملتوية ومن وراء ظهر القانون. يهتف المصريون بالعدل الذى يقضى فى فلسفته أيضا القصاص، ليس فى القتل فقط ولكن فى الصغيرة وحتى الكبيرة، يريد العامل أن يقتصّ من صاحب عمله لو أهانه بأن يهينه هو أيضا دون أن يترك عمله، ويريد كل مؤمن بهذه الثورة قصاصا لكل شهيد سقط فيها مهما كان من دبر أو نفذ لقتلهم، فلا يجب أن يتصور حاكم أن هذا البلد سيهدأ دون قصاص، ففيه الحياة، وهو الذى يسعى إليه أصحاب القلوب المحروقة والألم المستمر بكل وسيلة لرد حق أغلى ما يهب الله إنسانا على الأرض، هل يعجب الحكام من إصرار أهالى الشهداء على القصاص؟ هل يعجبون من إصرار الألتراس على القصاص؟ هل يعلمون أنه فى عهد عمر بن الخطاب قطع رجل قبطى المسافة من مصر إلى المدينة مصطحبا ولده ومتحملا كل مشاقّ هذا السفر الطويل فى ذلك الوقت وتكاليفه، مستهدفا وباغيا القصاص لابنه من ابن عمرو بن العاص حاكم مصر؟ والعجب هنا هو فى نوع القصاص المطلوب الذى بذل فيه الرجل كل هذه المشقة وقد كان أن ضرب ابن عمرو بن العاص الشاب القبطى بالسوط، لأنه تفوق عليه فى مسابقة ركوب الخيل، فقط لأنه ضربه بالسوط، فما عسى هذا الرجل أن يفعل لو كان ابنه قد قُتل، وما باله لو أن ابنه قد قُتل بمؤامرة خسيسة وبنذالة وبانتقام، وما باله لو قُتل بخسة ونذالة ومؤامرة لأنه كان صوت حق يصدح به فى وجه الطغاة؟ العدل سر الاستقرار. هل يدرى حكام اليوم ما قاله ابن تيمية فى الحكم والعدل: «إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة»؟