بعدما تناولت فى المقالين السابقين الركيزة الأولى من ركائز السياسة «الصهيوأمريكية» أو ما يحلو للبعض أن يدعوه بالمؤامرة «الصهيوأمريكية» على مصر: وهى دعم المشروع الصهيونى الذى يقوم بدور القاعدة العسكرية المتقدمة لها، ثم الثانية، وهى السيطرة على مقدرات اقتصاد مصر، ومنع أى تنمية حقيقية تحقق لها التقدم واستقلال القرار معا، أنتقل هنا إلى الركيزة الثالثة، وهى تدفق النفط، الذى أصبح الغطاء الجديد للعملة الأمريكية التى استمرأت التيسير الكمى حلا لمعضلاتها، بعد تحررها من غطاء الذهب، واستبدال الذهب العربى الأسود به. وحتى أوضح ما أعنيه بالتيسير الكمى، وهو اصطلاح اقتصادى مراوغ لعملية طبع العملة النقدية دون رقيب أو حسيب، اللهم إلا الحفاظ على قيمتها من التدهور، ودون غطاء لها كما كان الحال أيام الغطاء الذهبى، والذى لم يكن باستطاعة أى دولة أن تطبع من عملتها إلا ما تستطيع تغطيته بالذهب المودع فى بنوكها. أذكر القراء بأن الولاياتالمتحدة وبسبب تصاعد تكاليف الحرب الفيتنامية وارتفاع عجز ميزان المدفوعات ومعدلات التضخم بصورة غير مسبوقة، اضطرت عام 1971 إلى تحرير الدولار من غطاء الذهب، فى ما عرف باسم صدمة نيكسون، بعدما انهارت قيمته إلى 22% من قيمته السابقة. والواقع أنه لو فعلت أى دولة فى العالم هذا الأمر، فحررت عملتها من غطاء الذهب ومن قيود الميزانية ووضع الاقتصاد، وطبعت ما تريد من عملاتها لإنقاذ اقتصادها، لأعلن العالم إفلاسها. وما يدور فى مصر الآن بعد تعويم الجنيه إلا مثال قاسٍ لأثر قيود ميزان المدفوعات على الاقتصاد، وما يجره أى خلل فيه على البلاد من تضخم. لكن الولاياتالمتحدة، وقد وعت درس أزمة الثلاثينيات الخانقة، واستثمرت خروجها من الحرب العالمية الثانية منتصرة، استطاعت أن تفعل ذلك دون إعلان إفلاسها، لأنها فرضت الأمر بقوتها العسكرية من ناحية، وبسيطرتها على سوق النفط العالمى من ناحية أخرى فى ما يعرف باسم «هيمنة الدولار Dollar Hegemony»، وهو عنوان كتاب شهير لجون جابرييل صدر عام 2000. وتعتمد تلك الهيمنة ببساطة على إجبار مصدرى النفط فى العالم على تسعير نفطهم بالدولار. فيظل الطلب على الدولار مرتفعا، بسبب تزايد الطلب المستمر على النفط، وبالتالى يتحول النفط إلى بديل الغطاء الذهبى للدولار، رغم تحريره من غطاء الذهب، وانهيار الاقتصاد الأمريكى الذى أصبح أكبر اقتصادات العالم مديونية، وأقلهم تنافسية. وهذا ما يفسر اتفاق عدد كبير من المراقبين على أن أمريكا لم تعبأ كثيرا بكل ما فعله صدام حسين مثلا فى شعبه أو حتى فى جيرانه، بل استغلته لخلق قواعد عسكرية ضخمة لها فى المنطقة، لكنها قررت الإجهاز عليه وعلى نظامه فور أن حرر نفطه من قاعدة التسعير بالدولار. لأن هذا الفعل فى نظرها هو إعلان حرب على عملتها، بل على وجودها ومكانتها. هنا يجىء دور السعودية، أكبر مصدر للنفط فى العالم، فى السياسة «الصهيوأمريكية» فى المنطقة، وهو دور لا يقتصر على دورها المركزى فى إحكام السيطرة الأمريكية على سوق النفط الذى كشفنا أهميته القصوى لأمريكا ودولارها. إنما يتعداه إلى دور سياسى أخطر وضرورى لهذا الدور الاقتصادى، وهو العمل على زعزعة أى دعوة لبلورة فكر عربى يجمع شعوب المنطقة، وإلهاء العرب بالإسلام، وهو أيضا ما تريد أمريكا إلهاءهم به. لأن هناك علاقة جدلية بين طمس كل ما له علاقة بالقومية العربية، وتحقق المشروع الصهيونى، بقوميته المضادة لكل منطلقات القومية العربية وآمالها فى التحرر والتقدم. فهناك على الصعيد القومى صراع أساسى بين قوميتين فى المنطقة، لا تحقق أى منهما نفسها إلا على حساب الأخرى، وهو الصراع بين القوميتين العربية والصهيونية كدعوة قومية لها نفس المسيرة التاريخية المناظرة لمسيرة القومية العربية. ومن يراجع تاريخهما عبر قرن من الزمان، يجد أنه كلما ازدهرت إحداهما تم هذا على حساب الأخرى. ويناظر هذا الصراع ويرتبط به، على الصعيد العربى، صراع على زعامة المنطقة العربية بين مصر والسعودية، وفق الدور الأمريكى لها، يعود إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبداية إعادة تنظيم العالم وفق أجندة المنتصرين فيها. هنا أود إعادة القارئ إلى العلاقة الوثيقة بين تبلور الدولة الراهنة فى الجزيرة العربية، وبداية هيمنة المصالح الأمريكية فى المنطقة من ناحية، وتأسيس المشروع الصهيونى فيها من ناحية أخرى. وذلك بالعودة لذلك اللقاء الشهير فى 14 فبراير 1945، فى قناة السويس على ظهر البارجة الأمريكية «كوينسى» بين فرانكلين روزفلت (1882 - 1945) وعبد العزيز آل سعود (1876 - 1953)، الذى جلبته الولاياتالمتحدة إلى هذا اللقاء، لدلالة المفارقة، على ظهر المدمرة الأمريكية «ميرفى» التى رست فى البحيرات المرة. وقد جاء روزفلت لهذا اللقاء الذى تم قبيل انتهاء الحرب، وبعد تأكد الحلفاء من النصر، والاتفاق فى مؤتمر «يالتا» الشهير مع كل من تشرشل وستالين، على رسم خريطة عالم ما بعد الحرب. وكان روزفلت قد دبر قبل مغادرته واشنطن، لقاء ثلاثة رؤساء فى المنطقة، هم الملك فاروق (1920 - 1965)، وابن سعود (كما كان يسمى وقتها) وهيلاسلاسى (1892 - 1975) إمبراطور الحبشة. وحتى نعرف دلالة ضم اسم ابن سعود إلى القائمة فى تخطيط أمريكا وقتها لسياساتها المستقبلية فى المنطقة، علينا أن نعرف أنه كان يرأس وقتها دولة من أفقر دول العالم وأقلها تحضرا، وكانت قرب قاع الترتيب العالمى من حيث التعليم والصحة والدخل. وكانت تعانى وقتها من الفقر المدقع، خصوصا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية، عرقل تدفق الحجاج، الذين كانوا يشكلون المصدر الأول لاقتصادها، كما أوقف تصدير النفط الذى اكتشف بها فى العام السابق لاندلاعها. وأن هذه الرحلة كانت أول رحلة حقيقية لابن سعود الذى لم يكن قد غادر أرض الجزيرة فى حياته من قبل، اللهم إلا مرة واحدة وإلى البصرة. وأن أمريكا لم يكن لها حتى علاقات دبلوماسية حقيقية معها، اللهم إلا علاقات شكلية بدأت عام 1939 يرعاها سفير أمريكا فى مصر، على الرغم من نجاح شركة أمريكية فى التنقيب عن النفط فى المنطقة الشرقية بها عام 1938، لكنها كانت مجرد شركة متواضعة. بل إن روزفلت نفسه كان قد رفض عام 1941 نصيحة وزارة خارجيته بإقراض ابن سعود مقابل الحصول على امتيازات، بدعوى أنها بلد بعيد ولا أهمية له بالنسبة إلى أمريكا. لكن الحرب غيرت كل شىء. كانت الحرب تحط أوزارها، وكان علينا فى التخطيط الأمريكى للأمور، أو المؤامرة «الصهيوأمريكية» التى ما زلنا نعانى منها حتى اليوم، أن نتحمل عبء أبشع تلك الأوزار. فقد كان توقيت هذا اللقاء مهما: لأنه وقع بعد شهر واحد من تحرير معسكر أوشفتز من النازية، واكتشف العالم وقتها حقيقة الهولوكوست، بصورة أرقت ضميره وضمير روزفلت نفسه. وكان هم روزفلت من هذا اللقاء، الذى جاء له ابن سعود دون أى أجندة، أن يسوق مشروع إقامة دولة صهيونية فى فلسطين للعرب، وأن يتعرف على ردود أفعالهم عليه، وأن يعزز احتكار أمريكا لنفط السعودية، لأن الحرب أكدت لأمريكا أن نفطها غير كافٍ لسد شهية آلتها الجبارة للنفط. فقد كان هذا هو النفط الوحيد فى العالم العربى الذى تسيطر عليه شركة أمريكية، بينما بقية النفط العربى فى أيدى الشركات البريطانية. والواقع أن قصة لقاء روزفلت بهؤلاء القادة الثلاثة تستحق مقالا مستقلا، لكن المهم هنا أن روزفلت نجح نجاحا شخصيا وسياسيا مع ابن سعود، بينما أخفق على المستويين مع الآخرين. فقد كان ابن سعود أقربهم له عمرا، بينما كان الملك فاروق غرا فى الرابعة والعشرين من عمره. لذلك استمر اللقاء بين روزفلت وابن سعود خمس ساعات، وربط مصير السلطة السعودية منذ ذلك الوقت بالمخطط الأمريكى فى المنطقة. بينما لم يتجاوز اللقاء مع الملك فاروق الساعة. لكن المهم هنا أن كلا من ابن سعود وفاروق حذرا روزفلت من مغبة تأييد مشروع إقامة دولة للاستيطان الصهيونى فى فلسطين، وهو الأمر الذى ذكره روزفلت أكثر من مرة، خصوصا فى مقولته الشهيرة، «لقد تعلمت عن الصراع العربى - الصهيونى من ابن سعود فى دقائق أكثر ما تعلمت من عشرات التقارير عن الموضوع فى سنوات». وهذا ما دفع اللوبى «الصهيوأمريكى» وقتها إلى مضاعفة الجهد والعمل، فما أن مات روزفلت فى العام التالى، وجاء هارى ترومان حتى كان اللوبى الصهيونى قد أزال كل أثر لتوصيات روزفلت، وأصبح ترومان أول من اعترف بالدولة الصهيونية فور إعلانها عقب قرار التقسيم الشهير فى الأممالمتحدة. وعلى الرغم من ضيق ابن سعود بما فعله ترومان وقتها، حيث اعتبره خيانة لوعود روزفلت له، فقد كانت التفاهمات الأمريكية - السعودية التى رتبها معه، والتى تضمن أمن البلاد واستمرار حكم الأسرة السعودية فيها أكثر أهمية من المغامرة بها من أجل قضية فلسطين. واستمرت تلك التفاهمات طوال فترات الحرب الباردة العربية، خصوصا عقب صعود الناصرية وحركات التحرر فى المنطقة. ودعمت أمريكا جمع شمل السعودية للإخوان بها وببقية بلدان الجزيرة طوال الفترة الناصرية، فعادت بهم بقوة بعد تفاهمها مع السادات للعب الدور الأمريكى فى طرد أى أثر للفكر القومى من المنطقة. وبقية فصول الهجمة التى انتهت بانتشار قنوات التأسلم والتأسلف والدعم المالى السخى لها معروفة. وما إرسال محمد مرسى لمبعوثه الخاص إلى السعودية بعد إخفاقه فى الإفراج عن «إخوانه» فى الإمارات، يطلب عونها باعتبارها «الشقيقة الكبرى» كما يحلو لها أن تسمع، إلا تدعيم لهذا المخطط الذى يعلى من شأن السعودية على حساب أى بروز لدور مصر، أو استقلال لقرارها. وهكذا تؤكد السياسات الراهنة لحكم الإخوان ضلوعهم الكامل فى ما دعوه بالمؤامرة «الصهيوأمريكية» على مصر، وتدعيمهم كل أركانها.