يمكن لأحداث مضت وذكريات كثيرة أن أنساها تمامًا، وكأنها لم تقع أصلًا فى مجرى حياتى، لكن تفاصيل كثيرة ودقيقة مما حدث -زمان- فى بيتنا القديم فى الجيزة، لا يمكن أبدًا أن أنساها! فطفولتى، وصباى، وسنوات الشباب الأولى، كلها كانت هناك، فى هذا البيت العتيق، حيث جيراننا جميعًا كانوا بمثابة أهل، وكنا نشكِّل عائلة كبيرة. فالرجال يلتقون معًا فى المساء، ويتسامرون على المقاهى، وسيدات البيوت يتزاورن كل يوم، وكل حين، ويتنقلن من بيت إلى آخر، وكنت صغيرًا أسعى مع أمى حيثما ذهبت، وألعب مع الأطفال فى البيوت، وفى الشوارع. وفى يوم مشهود احتفلنا جميعًا بحفل زفاف بنت الجيران، وكانت «الكوشة» فى بيتنا، وكنت أرتدى بدلة سوداء، و«بابيون» أحمر! وكانت ثمة صغيرة ترتدى فستانًا أبيض، وطرحة بيضاء طويلة! ومن ثَم أصر بعض الموجودين أن نجلس معًا فى «الكوشة»، والتقطوا لنا بعض الصور التذكارية. ولا أدرى لماذا غضبت جدًّا من تصرفهم، وتضايقت من هذه الصور الملفقة، ولم أحتفظ بأى منها! وإذ نحسب أن الأيام والشهور والسنين هادئة فى حركتها الرتيبة، بينما هى تمر مر السحاب، فقد كبرنا سريعًا جدًّا، وتفرَّقت بنا السبل.. فقد تزوجت وفشلت أكثر من مرة، وهى أيضًا تزوجت، لكنها صبرت وتحمَّلت كثيرًا، حتى رحل زوجها عن عالمنا، وتركها أرملة شابة مع طفلتَين ومعاش صغير، فعادت إلى عملها فى المدرسة المجاورة لبيتنا، وكنا نلتقى -أحيانًا- حين أذهب لزيارة أمى الوحيدة، فأجدها هناك تتسامر مع أمى وتخدمها أيضًا. وقد فوجئت أنها تتابع مقالاتى فى الصحف والمجلات، ثم طلبت منى أن أحضر لها رواياتى ومجموعاتى القصصية، ومن ثَم تشعَّب بنا الحديث فى مجالات الفكر والأدب والدين والسياسة، وامتدت حواراتنا، ومناقشتنا طويلًا.. وفى آخر زيارة لأمى، وجدتها هناك، وكأنها بانتظارى، فتحدثنا فى أمور كثيرة، وإذا بها تخرج من حقيبة يدها صورتنا القديمة، وتسألنى وهى تضحك: لماذا تضايقت يومئذ، ونحن جالسان معًا فى «الكوشة»؟! أنظر إلى منظرك وأنت تحاول أن تفلت منهم، وهم يقبضون عليك، لكى تقبل أن تتصور إلى جوارى فى «الكوشة»؟! ضحكت معها، وخجلت من نفسى، إذ لم أجد أى إجابة معقولة، أرد بها على سؤالها المفاجئ، فتعللت بحماقات الصبى والطفولة! فقالت لى بجدية: أنظر جيدًا إلى الصورة، ألم تلاحظ أنى كنت سعيدة بالجلوس فى «الكوشة» إلى جوارك؟! فتأملت الصورة، وكأنى أراها لأول مرة، وقلت لها: لقد ارتكبت -طوال حياتى- حماقات كثيرة، ولا أستطيع -الآن- أن أجد أى مبررات منطقية لكثير من حماقاتى!