سافرت إلى المغرب عضوة فى مؤتمر مهم لمصير معوقى العالم سافرت أحلم باستراتيجية لخمس سنوات تذيب المعوقين فى مجتمع يرفضهم ويخبئهم.. مع 167 دولة اجتمعنا بالمغرب لثلاثة أيام من أجل تنمية معوقى العالم.. ملأتنى الجلسات والموائد المستديرة بالخطط المفعمة بالأمل حتى عام 2016، هذا فى مراكش.. أما فى الدارالبيضاءوفاس والرباط فقد استيقظ مارد وردى.. استيقظ وجدان المغاربة المضفر بكل أنواع الفنون من «الآرتيزانا» فن العمل اليدوى من الخزف والفضة والعاج.. إلى الغناء والموسيقى.. اكتشفت هنا كنزاً من البشر عشش فيه فن الغناء والتمثيل والموسيقى المصرى.. هنا تعيش سعاد حسنى وتعشش بكل تفاصيلها فى وجدان الشباب والشيوخ، مازالت الشابات يقعصن شعورهن ويقصصنها مثل سعاد حسنى.. مازال ثوب بطلة زوزو والدنيا ربيع فى «أميرة حبى أنا» هو آخر موضة.. ضحكة سعاد!! طلة سعاد!!. هنا عبدالحليم حافظ هو زوج سعاد يؤكدون ويقسمون، فقد شاهدوهما فى شوارع المغرب معاً عند زيارة لحفلات أضواء المدينة فى الستينيات!! هنا سعاد تعيش ويؤكدون أنها ماتت فى مصر فلا جنازتها هنا ولا مقبرتها هنا.. هنا الأفلام والأغانى، هنا سعاد الحياة رغم شهادة الوفاة فى لندن فى 22 يونيو 2001، هنا يسعى المخرج المغربى عبدالله المصباحى ليعيد آخر أفلامها الذى اغتالته السياسة كما تغتال حياتنا وطعامنا ووجداننا وأخلاقنا. الفيلم هو «أفغانستان.. الله وأعداؤه».. اختارها للعبقرية التى فرضت نفسها على الساحة الفنية وعششت وتربعت على عرش الوجدان العربى.. فيلم واجهت فيه العبقرية اليونانية إيرين باباس وجوليا نوجما وشيك كونرس ونجم المسرح العملاق عبدالله غيث.. اختارها المخرج بعينى جواهرجى.. ومُنِع الفيلم الملىء بالفن الذى صوره عبقرى الصورة الراحل عبدالعزيز فهمى.. مُنِع لأسباب سياسية. وفى ذكراها أمطرت السماء حبا وحنينا وأنستنى الأيام الثلاثة التى عانيت فيها من أجل فرض توصياتى للمعوقين.. واكتشفت حينما هلت ذكرى سعاد أننا معوقون الآن بالفن الردىء ونحن تمتلئ نفوسنا بالفن الذى كان يدخل فى شحذ الهمة وتنقية القلوب والعقول.. ولنفتح الدفتر لتطل سعاد. سعاد وأنا علاقة غريبة ربطتنى بسعاد حسنى.. كنا فى علاقة حميمة لكنها متناثرة اللقاءات.. نزعت حينما هوى فيلم «الدرجة الثالثة»!!! وقررت أن أحاورها دون أن أخطط للنشر.. وحاورتها وكانت كأنها تلقى إلىّ برسالة أخيرة، كان هذا عام 1986.. سجلت حياتها فى 12 ساعة منذ طفولتها وحتى آخر فيلم.. صممت ألا يكون فى البيت إنسان غيرنا وكأنها تعطينى أمانة.. كانت تعد الشاى بنفسها.. وتعد العشاء لكلينا بنفسها وتقول: - باحب بيتى جداً رغم صغره.. حجرة واحدة وحمام ومطبخ وردهة كانت تضيف لها اتساعاً مرآة كبيرة بعرض الحائط نزعتها بعد طلاقها من على بدرخان. كانت موسوسة جداً.. تعيد سماع ما سجلنا.. حينما سألتها: لمن كانت تقرأ وهى صبية؟ قالت: سلامة موسى وأنيس منصور وكامل الشناوى، وحينما سألتها: كنت فى أى مرحلة دراسية؟ أغلقت التسجيل وقالت: - أنا لم أدخل مدرسة طول عمرى.. علمتنى القراءة والكتابة الفنانة إنعام سالوسة. تدفقت سعاد بداية بالألم فى الطفولة والتمزق بين الأم والأب فكلاهما تزوج وهى فى الخامسة.. وبريق السعادة حينما اكتشفها بابا شارو وغنت (أنا سعاد أخت القمر) وقال وقتها تأكدت أنها عبقرية لأنها لم تخش الميكروفون وغنت وهى تبتسم وكان عمرها ثلاث سنوات. قالت لى: - أول قهر فى حياتى فراق أبى وأمى.. زوج أمى أثر فى حياتى (وملأ الإشراق وجهها).. أول حب ابن الجيران كابتن كورة شراب على بدرخان.. حب بعمق.. كان رقيقاً جداً.. حازماً جداً.. عنيداً جداً (الرقص عندى فلسفة.. تعبير ذاتى جداً وأحببته). اعتراف: مساحتى فى الغناء محدودة.. كنت أغار من ملابس صباح.. كنت أبكى وأنا أشاهد شادية وفاتن حمامة!! ثقة: فى البداية صممت ألا أذكر أننى شقيقة نجاة.. لم أقلد أحداً فى حياتى.. صلاح أبوسيف قال عنى أولاً لا تصلح ثم أُعْجب بى فى «الزوجة الثانية». كتبت المذكرات وعرضتها عليها وقلت لها: لن أشطب كلمة، إنها وثيقة فكلها مسجلة بصوتك.. واختلفنا لأنها تراجعت فى آرائها فى بعض الزملاء. ثم أقنعتها بالنشر حينما صممت ابنتى الكاتبة النابهة سهام ذهنى وكانت مسؤولة عن مجلة «سيدتى» فى القاهرة، صممت على النشر فى «سيدتى» وسعدت بها صديقتى الغالية الأستاذة حسن شاه ونشرتها فى نفس الوقت فى مجلة «الكواكب»، حينما كانت رئيسة تحريرها، وبدأت المشاكل بيننا.. فقد غيرت رأيها فى بعض الزملاء وأرادت أن أغير ما كتبته ولكن رفضت لأن لدىّ وثيقة بصوتها.. وفى «سيدتى» منع الجزء الخاص بإعجابها بعبدالناصر، وتحدثت مع الأمير طلال ليتدخل فى حذف ما تريد.. ورفضت.. ووصل خلافنا إلى الصحف.. وكنت سخيفة.. أحسست بسخافتى بعد وفاتها واللوعة والهزة التى حدثت فى وجدانى بفقدها.. وإيه يعنى؟ ما كنت أوافق على كلامها وتراجعها فى آرائها فى بعض الزملاء!! وظللنا على خلاف إلى حين وفاتها. وقبل الوفاة طلب منى الزميل نبيل أباظة وكان رئيساً لتحرير «كتاب اليوم» أن أنشر المذكرات فى كتاب فرفضت ووقلت له: لما ترجع سعاد بالسلامة هى التى تعطى الموافقة.. ورحلت فجأة وكان ما كان من شائعات الرحيل ومؤامرات القتل ونشرت الكتاب بعد الوفاة بعنوان «سعاد حسنى.. أيام الشهرة والألم» وكم كنت أتمنى أن تعيش لترى ما كتبته عنها فى المقدمة!! هى وعبدالحليم حينما سألتها عن علاقتها بعبدالحليم، قالت إن عبدالحليم ونجاة علماها أن الفن ذكاء، وأنها استفادت منهما فى هذه المرحلة جداً، وأنا من طبيعتى فى الصحافة لا أهوى الخبطات التى تهوى بالبشر وتضايق فى الحياة.. فلم أضيّق عليها الخناق.. ولكن قلت لها: هل تجلسين عشر ساعات معه فى تسجيل أغنية «السد العالى» وأنتما فى حالة حب؟ قالت: - عبدالحليم عندى كان فوق خط الحب. ولم أعلق لأن العبارة شديدة الذكاء شديدة الوضوح.. وعودة للمغرب. هى وحليم فى المغرب كنا فى حفل عشاء وعزفت الموسيقى التراثية المغربية ورقصوا الرقص التراثى.. وفجأة دخلت راقصات ببدل الرقص البلدى وعزفت الموسيقى أغنية عبدالحليم «زى الهوى يا حبيبى» قمنا من على الموائد.. كل المصريين بعد قيام كل المغاربة وحول الراقصات سألنى صديق مغربى: - عبدالحليم كان متزوج من سعاد حسنى؟ - لأ ما حصلش. - لأ حصل كانوا هنا على طول ماشيين فى الشارع مع بعض وكتبوا لنا فى الأوتوجرافات. وقالت فتاة مغربية: - ليه دايماً تقولوا لم يتزوجوا؟.. مع إننا هنا عارفين أنهم تزوجوا.. رفضوا تماماً فكرة عدم الزواج.. لأنهم أحبوهما وزوجوهما فى وجدانهم ورفضوا فض الزواج!! وقال لى السائق: - سعاد عايشة.. عايشة عندنا لم تمت. - سعاد ماتت فى لندن ودُفنت فى القاهرة. قال بثقة شديدة - اسمعى يا سيدتى اسألى أى حد فى المغرب من مراكش لتطوان، صغار وكبار.. عبدالحليم عايش وسعاد عايشة.. لا شفنا جنازات ولا عندنا قبر لهم هما ماتوا عندكم.. لكن عندنا عايشين.. يمثلوا.. يغنوا.. وأعجبتنى الفكرة.. ولكن نحن فى مصر الموت عندنا واضح وكبير وضخم.. فأكبر مبنى فى بلادنا مقبرة.. الهرم!! ولكن فعلا سعاد مازالت بيننا.. فى ابتسامة كل فتاة وفى تفتح ورد الربيع وفى كل فيلم من أفلامها سعاد بعبقريتها فتاة الجامعة ابنة الراقصة فى «زوزو».. المتزوجة فى الخفاء من مديرها وضبطتها زوجته فى «أميرة حبى أنا».. زوجة الموظف محجوب عبدالدايم ورفيقة الوزير فى «القاهرة 30».. الزوجة الثانية والقهر بالزواج فى «الزوجة الثانية».. المريضة النفسية فى «بئر الحرمان» لإحسان عبدالقدوس.. التوأم فى «نادية» ليوسف السباعى.. كثير.. كثير سعاد حسنى.. عمرنا مضفر بأفلامها.. أحلامنا معلقة بابتسامتها. لكن هنا فى المغرب لا يفكرون مثلنا وفى خلفيتنا حسرة الوفاة.. هنا يعيشون أفلامها (سيديهات فى البيوت).. يحبونها أبيض وأسود ولا يهم الألوان. سعاد لماذا؟ وفى لقاء مع المخرج المغربى عبدالله المصباحى.. طغت سعاد على الحوار فقد أخرج لها آخر أفلامها أفغانستان الله وأعداؤه.. وسألته: ■ لماذا أفغانستان؟ - لأن هناك برز صراع السيطرة على بلد مسلم.. كان الاتحاد السوفيتى قد نشر شباكه هناك وكانت المعاناة واضحة فى الشعب الأفغانى، وكان الفيلم يناقش رحيل السوفيت وسيطرة الأمريكان، وكان يعرض بجرأة أخطار السوفيت فكان يصب فى الإساءة إلى الدولتين الكبريين وكانتا هما الحليفتين للمغرب فى ذلك الحين وأن الفيلم سوف يؤدى إلى قطع العلاقات. ■ ولماذا سعاد للبطولة مع إيرين باباس اليونانية وجوليانوجما وعبدالله غيث.. لماذا سعاد؟ - سعاد كل شىء فيها عبقرى ملامحها عبقرية تستطيع أن تعطى الإحساس بأنها مصرية وأفغانية وبالدور الذى تؤديه تقنع من أمامها بحرفية عالية. لقد كانت مدعوة فى مهرجان موسكو عام 1984 ولكنهم منعوها من الدخول بسبب هذا الفيلم. ■ لقد حدث ما تنبأ به الفيلم وخرج السوفيت بل انتهى السوفيت بعد ذلك، وتفككت السوفيتات وأصبحت دولا مستقلة فلماذا لا يعرض الفيلم؟! قال المخرج عبدالله المصباحى وملامحه تنطق بالسعادة بعد صبر أكثر من ربع قرن. - فى عهد الملك محمد السادس تغيرت السياسة تجاه أمريكا وروسيا وسوف يعرض الفيلم فى كل الدول العربية بل فى العالم كله. ■ ألن يكون الفيلم خارج الزمن بعد توقف عرضه كل هذا الوقت.. ورحيل سعاد خفض نور وجودها.. فكيف يعرض؟ سياسيا يجب أن يعرض فنيا اختلفت الصيغ الفنية؟ - قولى يا سيدتى كيف لا يعرض!.. رحلت سعاد ولم ترحل أعمالها العبقرية.. وهذا الفيلم أفرج عنه وسوف يعرض فى كل العالم لأن أبطاله ليسوا من مصر فقط مثل سعاد حسنى وعبدالله غيث ولكن من كل العالم ومن تصوير الراحل عبدالعزيز فهمى.. كل هؤلاء من حقهم أن يرى الفيلم النور. تراجع - لديك حق خصوصا أننا يجب أن نضع حدوداً لتدخل السياسة فى حجب أى إبداع فنى.. فالفن ملك وجدان الناس والسياسة يملكها صناع القرار. وبعد.. لم أجد سوى مجموعة الصور.. وأفيش الإعلان عن الفيلم.. مجموعة صور من مشاهد من الفيلم تتجلى فيها عبقرية سعاد.. آخر أفلامها الذى تم اختيارها وقتها للدور من بين نجمات من العالم كله.. وفازت سعاد بالدور لفتاة أفغانية تقف ضد الذين يهددون باحتلال بلدها.. تقوم بدور فتاة تقف أمام المحققين.. وتصل إلى حد الوقوف تحت تهديد السلاح.. ولكنها سعاد حسنى التى فقدناها ولكن لم نفتقدها.. وكما يقول المغاربة: سعاد لم تمت ولكنها تسيطر على وجدان محبيها. آخر الكلام فى مسجد القرويين -أقدم مساجد المغرب- فى مدينة فاس بعد صلاة المغرب.. مدت لى سيدة يدها وقالت: حرماً.. قلت: جمعا.. قالت: مصرية؟.. نعم مصرية.. قالت سعاد حسنى عندها عيال؟.. لا لم تنجب.. وسعاد ماتت. قالت السيدة وهى تشير بيدها إلى السماء.! - وحق السما.. سعاد عايشة. وهكذا يصر المغاربة على أن سعاد لم تمت وهى فعلا تعيش فينا فى كل ما قدمت.