كان مشهدا رائعا ومألوفا فى أيام الثورة الثمانية عشر، أن تجد كفيفا يسير فى ميدان التحرير، سواء بصحبة مرافق ودليل، أو برفقة عصاه التى يضرب بها بين فراغات الملتحمين فى أرض الميدان، فيجد لنفسه مساحة بينهم ووسطهم، ربما تكون من المرات القليلة -إن لم تكن المرة الوحيدة- التى شعر فيها أنه أخيرا أصبح له مساحة ومكان بين الناس على نفس أرضية هذا الوطن. لم أنس يوم أن حدثتنى «أم الرجال» فى أثناء الثورة، وهى سيدة عظيمة أم لثلاثة شباب من فاقدى السمع والكلام، وهى واحدة من رائدات العمل الحقوقى فى مجال ذوى الاحتياجات الخاصة، وطلبت منى الوصول إلى أحد مسؤولى شباب تأمين وحماية الميدان، وذلك لتأمين مسيرة للصم والبكم ستأتى إلى مليونية الجمعة التالية لموقعة الجمل، وقتها قالت لى الدكتورة سهير عبد الحفيظ «أم الرجال»: «هؤلاء الشباب لن ينتبهوا لأى خطر ولن يسمعوه إلا بلغة الإشارة، لهذا نريد حمايتهم وتحويطهم، فهم مصرون على أن يعبروا ويصرخوا مع جموع الشعب، هم يريدون أن يسمع كل المصريين أصواتهم، يروهم، يعرفوهم، يشاركوهم، يصرخوا معا ضد الظلم والفساد». ملاحظة: ابن هذه السيدة الرائعة هو شاب رائع مثلها، فنان ملهم، مصور يملك عينا لها رؤية، ومشاعر تحمل وجهة نظر ناضجة، شاب يفرح القلب اسمه «أحمد أونه».. تذكروا هذا الاسم جيدا وقريبا. بعد الثورة، ومع التهاب المشاعر الإيجابية، تحدثت مع كثيرين من المعنيين بقضية ذوى الاحتياجات سواء أهالى الأطفال أو الشباب أنفسهم من ذوى الإعاقة، الذين يحملون رؤى وخططا تم حبسها لسنوات فى أدراج الفساد والفاسدين من العهد البائد، تجددت الأحلام والمشروعات المحددة والمطالب البديهية الواضحة، كان أكثر ما يثير إعجابى وتقديرى لكثيرين منهم هو أنهم يتحركون بمنطق التخطيط، لا بمنطق المطالب الفئوية –التى استنكرها البعض لدرجة الهجوم والإساءة– رغم أننى أرى أنها كانت أمرا طبيعيا بعد انفجار ماسورة مجارى الفساد والعفن، الذى فوجئنا جميعا أننا كنا نسبح تقريبا داخلها. انفجر المجتمع وانفجر معه متحدثون باسم 10 ملايين معاق على أقل تقدير، يمثلون مجتمعا آخر شبه معزول.. هم أيضا لهم حقوق بديهية تاهت واندثرت. قبل الثورة بشهور، لن أنسى مكالمة أم -أتشرف بمعرفتها- هى أم لفتاة من ذوى الإعاقة الذهنية الصعبة، ولديها طفلة أخرى تعانى من صعوبات التعلم، جاءنى صوتها منهارا لأن المراقبين يسمحون للطفلة ولمثيلاتها من الأطفال بطيئى التعلم بالغش العلنى، بدلا من تأهيلهم بشكل صحيح وبذل مجهود حقيقى لإفادتهم، رغم أن الأم تدفع مصروفات بالآلاف فى تلك المدرسة حتى تحظى ابنتها بأكبر قدر من التعليم والتأهيل، لكن للأسف فإن هذه الجريمة صنعت طفلة مصابة بالرعب من فكرة الامتحان دون مساعدة، لأنها ظلت سنوات تنجح بالغش. وبعد الثورة حدثتنى نفس الأم ولديها خوف كبير من الحوار الذى دار بينها وبين طفلتها، التى بكت عندما قالت لها الأم إن الثورة ستقضى على الفاسدين والغشاشين، وإنها لن تتمكن بعد اليوم من الغش فى الامتحانات. منذ أيام ولا أعلم، لماذا لعب معى قانون الجذب لعبته السحرية، حيث كنت أعانى من حالة سلبية، فجذبت دون وعى كل ما هو سلبى لمجالى وكانت هذه المكالمات ضمن ما جذبته نحوى. أم الفتاة الأخيرة التى حكيت عنها منذ قليل حدثتنى وهى تبكى وقالت لى «ولا حاجة اتغيرت، بنتى لسه بتغش، ولما تكلمت مع إدارة المدرسة قالوا لى بدل ما تحمدى ربنا إننا نجحنا بنتك، جاية بتتخانقى معانا»، سألتنى الأم بانهزام لم يخفه صوتها « تفتكرى أنا غريبة الأطوار عشان عاوزة بنتى تكون محترمة، نفسى تتربى على قيمة العمل، مش على الغش والاستسهال».. كان أملى كبيرا فى الثورة، كنت عاوزة أثبت لابنتى أن الثورة ضد الغش! لم يمر يومان على هذه المكالمة حتى اتصلت بى أم أخرى رائعة، لو كان الأمر بيدى لصنعت لها تمثالا، فقد حاربت طوال السنوات الماضية، حتى تنجح فى أن تكمل تعليم ابنتها المصابة بالشلل الدماغى تعليما جامعيا، حيث إن هؤلاء المعاقين بتلك الإعاقة يملكون قدرات ذهنية عالية تمكنهم من إتمام تعليمهم الجامعى، وكانت شروق أول من طبق عليها هذا القرار بفضل والدتها التى لم تكن تقبل إلا أن تصل بابنتها وتتحدى بها وتثبت للعالم كله أن الإعاقة لا تعنى الدونية بأى حال من الأحوال. تحقق الحلم وتخرجت شروق منذ شهرين فى الجامعة وحصلت على ليسانس آداب قسم اجتماع عين شمس.. تحقق الحلم.. أما ما حكته لى «أم شروق» فى المكالمة وجعل من حلمها كابوسا.. سأرويه لكم لاحقا. قالت لى نفس جملة الأم السابقة بمنتهى المرارة «كان أملى كبير أوى فى الثورة»!