وهكذا انتهت مليونية تصحيح المسار بلا حديث يذكر عن المطالب السياسية. اقتحام السفارة الإسرائيلية سرق الأنظار. ولا، لن أتفهم هذه المرة الدوافع الوطنية التى أدت إلى هذا، بل سأقولها مباشرة: اقتحام أو محاولة اقتحام السفارة الإسرائيلية خطأ كبير. وكم من الأخطاء الكبيرة ارتكبت باسم الوطنية، منها أخطاء لا نزال ندفع أثمانها حتى اليوم. الوطنية مثلها مثل الدين، مثل الصداقة، مثل حب أطفالك، لا تصلح وحدها لتحقيق المنفعة للطرف الذى تتوجه له بهذه المشاعر الطيبة، بل لا بد لنا من تشغيل عقولنا. حتى الحب يحتاج أحيانا إلى كبح بعض مظاهره لكى يثمر. هذه القواعد البسيطة نمارسها جميعا فى حياتنا اليومية وفى أمورنا الشخصية، ولا أدرى لماذا نضن على وطننا بما نسخو به على أنفسنا، أو ربما أدرى لأننا حين نتعامل مع أنفسنا نحسب العائد ونرصده ونشعر به ونتحمل -بصورة فردية شخصية- تبعاته. أما حين نتعامل مع الوطن فإننا نشعر بأنه شىء منفصل، ومقدس، ومستحيل على الأذى. وليس هذا صحيحا بالمرة، فالوطن، حتى لو كان ذا وجود مؤرخ منذ سبعة آلاف سنة، هو شركة، مساهموها هم مواطنوه، وعلى حسب القرارات الفردية التى يتخذها هؤلاء المساهمون يزيد رصيده أو ينقص، وتنمو الشركة أو تتقلص. ونحن نريد لوطننا أن ينمو، ولذلك لا بد أن نرسى قواعده الداخلية، وأن لا نغرى الشركات المنافسة بإغلاق السوق من حولنا، ولا نشعرها بأننا نمثل لها تهديدا. ليس هذا جبنا، هذا أبسط قواعد الحصافة السياسية. موازين القوى السياسية تنشأ ذاتيا، لا تنشأ بقرار. بمعنى أننا لو قررنا اليوم أن نكون ندا لروسيا مثلا فلن نثير إلا الضحك والسخرية، السبيل الوحيد للوصول إلى تلك الندية هو الوصول إلى مستوى الندية. وما ينطبق على روسيا ينطبق على غيرها من الدول. علينا أن نركز فى الوقت الحالى على شىء واحد: كيف نجهز الأسس الداخلية وكيف نبنى اقتصادنا وحياتنا السياسية للوصول إلى مستوى الندية. وعلى ذكر الشركات، دعونى أضرب لكم مثالا صادقا وإن كان مرا. أمريكا تشبه شركة «أبل»، أوروبا تشبه شركة «مايكروسوفت» أو أقل قليلا، أما نحن ففى مستوى شركة «مدينة الهنا» لخدمات الكمبيوتر. قبل أن نعتبر أن هذا دعوة إلى اليأس، علينا أن نتذكر أن بيل جيتس «مؤسس مايكروسوفت» كان يوما شابا بسيطا لا يكاد يملك رأس مال شركة مدينة الهنا. يومها لم يكن يحلم بمناطحة شركة «أبل ماكينتوش» العريقة، لكنه الآن يفعل ذلك، ويفوقها فى بعض الأسواق العالمية. الطريقة التى فكر بها بيل جيتس فى تقوية شركته وترسيخ أقدامها هى نفس الطريقة التى يجب أن يفكر بها كل فرد فينا لتقوية مصر وترسيخ أقدامها، «الرؤية والابتكار والكفاءات والإدارة الجيدة». وإن كان لمساهمى مصر مسؤولية كبيرة فى توجيهها، فإن على مجلس الإدارة مسؤولية أكبر. سبق أن انتقدت محافظ الشرقية لأنه كافأ من نزع العلم الإسرائيلى من على السفارة، لأن السلطة محكومة بقوانين دولية، ولا ينبغى أن تظهر بمظهر من يشجع على اقتحام سفارة. ربما قدم هذا مبررا إضافيا لإسراع الولاياتالمتحدة إلى إصدار بيان يعرب عن قلق البيت الأبيض مما حدث. كما لا أشك فى أن الشكوى التى يتوقع أن تقدمها إسرائيل ضد ما حدث سوف تشمل ذلك التصرف كدليل على تشجيع السلطة للمتظاهرين. إن كانت السلطة فى مصر لا تقوم بدورها، بل ربما تستفيد من حادث ك«اقتحام» السفارة الإسرائيلية فى تشتيت الأنظار عن مطالب الإصلاح الداخلى، فعلى قيادات الثورة أن يثبتوا أنهم على مستوى القيادة. أولا بأن يدركوا أنه قد حان الوقت لكى تكون لهم قيادات متعددة «قيادة لكل تيار» تُسأَل عن تصرفات الأفراد. وثانيا بأن يكونوا واضحين فى رسائلهم وأن لا يخضعوا للابتزاز السياسى. إن كانوا يؤيدون فصيلا معينا فليعلنوا على الملأ أنهم يؤيدونه، وإن كانوا يعارضونه فليعلنوا ذلك أيضا دون أن يخشوا لوم اللائمين. هذه هى الوطنية كما أفهمها، حب ومسؤولية. أن تشعر بأن الوطن خليط من ابنتك وأمك وليس إلهك.