يمكن أن نتحدث طويلا عن ذكاء فيلم «عمر» لمؤلفه ومخرجه الفلسطينى هانى أبو أسعد (مخرج فيلم الجنة الآن)، لكننا سنبدأ دائما من السيناريو الذهبى الذى يتحدث عن الاحتلال من خلال تفاصيل صغيرة عن الحب والصداقة والخيانة. هناك فى الحقيقة دائرتان صغيرتان مترابطتان بقوة من خلال دراما متقنة: علاقة صداقة بين ثلاثة من الشباب فى الضفة الغربية، وعلاقة حب بين شاب منهم وشقيقة أحدهم، أشياء يمكن أن تجدها فى عشرات الأفلام، ولكن الفيلم يختير الدائرتين فى إطار دائرة أوسع اسمها الاحتلال، تستطيع أن تعتبر الفيلم بأكمله رحلة لأبطاله من الدائرة الأوسع إلى الدائرتين الأضيق وبالعكس، إنها تحديدا محنة عمر الذى سيكتشف فى اللقطة الأخيرة أن الاحتلال هو الذى دمرأصدقاءه، ودمر حكاية حبه، ودمره هو شخصيا، هنا فقط سيعود إلى الدائرة الأوسع، سيوجه رصاصاته إلى سبب المأساة كلها، من دون أن يتملص هو من مسؤوليته. من هذه الزاوية، فإن هذا الفيلم الذى وصل إلى التصفية النهائية لمسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى، يقدم إدانته للاحتلال بشكل غير مباشر، ومن دون صخب أو ضجيج، ومن خلال العلاقات العادية، إنها نفس اللعبة التى أجادها هانى أبو أسعد فى فيلم «الجنة الآن». عمر (آدم بكرى) الخباز الذى يشترك مع صديقيه طارق وأمجد فى خليه تقتل جنود الاحتلال، يعيش حكاية حب عذبة مع نادية (ليم لبانى) شقيقة طارق، هى تبادله الحب، بينما ينافسه أمجد على قلب نادية، قصة عمر ونادية رومانتيكية تماما، عمر يقفز الجدار العازل فى كل مرة يريد فيها أن يرى نادية، يتبادل معها الخطابات الورقية المكتوبة، لقاؤهما يعبر عنها بالنظرات وحركة الجسد، ويتبادلان مرة واحدة قبلة أقرب إلى قبلات الأطفال، فى هذه التفاصيل الحميمية ما يقرب الشخصيات من المشاهد، تماما مثل النكات التى تتردد فى جلسات عمر وطارق وأمجد، منذ المشاهد الأولى تسير الدوائر الثلاث معا: صداقة وحب وجدار صنعه الاحتلال، وقفزات عمر المتكررة لعبور الجدار العازل رغم الأخطار تكتسب معنى رمزيا واضحا: عبور جدار المحتل فى كل مرة، سيفتح أمام عمر أبواب متعة الصداقة والحب معا. عندما يقوم الأصدقاء الثلاثة بقتل جندى إسرائيلى، وعندما يقبض جنود الاحتلال على «عمر»، تنتقل الدراما إلى هيمنة دائرة الاحتلال الأوسع، الضابط الإسرائيلى الماكر (وليد زعيتر) يستدرج عمر مثل فريسة وقعت بين يديه، يسجل له امتناعه عن الإدلاء بأسماء شركائه، يعتبر ذلك اعترافا قانونيا، يستخدمه لكى يكون عمر مرشدا للإيقاع بطارق الهارب، وإلا كان مصير عمر السجن لمدة 90 عاما، تتداخل من جديد الدائرتان الصغيرتان: السجن سيحرم عمر من الحب حيث نادية المنتظرة، والخروج من السجن سيحرمه من الصداقة، من خلال الإيقاع بصديق عمره طارق شقيق نادية، هنا منطقة رمادية مدهشة تصنع صراعا دراميا معتبرا، ثم يزيد الصراع عندما يكتشف عمر أن صديقيه طارق وأمجد الهاربين يشكان فى أنه خائن، مثلما يشك كل واحد من المجموعة فى زملائه. يحاول الأصدقاء أن يكتشفوا خائنا فى المجموعة، يعترف شاب أنه وشى بهم نظير تأشيرة للهجرة إلى نيوزيلندا، يحاول طارق أن ينصب كمينا مضادا لجنود الاحتلال، ولكن الخطة تفشل، ويقبض على عمر للمرة الثانية، هذه المرة يربطه ضابط الاحتلال بجهاز للتتبع لا يمكن أن يتخلص منه عمر إلا إذا قام ببتر ساقه، يبدو التعبير عن تدمير الاحتلال للبشر فى صورة رمزية بدنية مثلما شاهدنا إهانة عمر بعد توقيف دورية له، وقف لساعات على حجر، ضربوه فى أنفه، ثم ها هو من جديد سجين راقدا على الأرض، يتكلم مع النمل فى زنزانة مظلمة. يخرج عمر من السجن مرة ثانية، تحاصره الدائرتان الصغيرتان: نادية تشك فى أنه يعمل مع جنود الاحتلال، وهو يشك فى أنها تقيم علاقة مع صديقه أمجد، رآه يذهب إليها، ويتحدث معها فى مدرستها، لديه الآن أيضا مشكلة طارق الهارب، تلتحم الدوائر معا من جديد، وتندمج صراعات متعددة: عمر مرشح لخيانة طارق، ولكنه يشك فى أن نادية تخونه مع أمجد، الضابط الإسرائيلى اخترق حتى حكاية عمر الرومانسية مع نادية، صورهما مسجلة، كيف يمكن أن يعيش حب أو تصمد صداقة فى ظل احتلال يمثل هذه الشراسة؟ هذا هو سؤال الفيلم. أما الإجابة فتأتى سريعا فى الثلث الأخير: سيكتشف عمر أن أمجد يعمل مع الاحتلال، وأنه أقام علاقة مع نادية، سيتذوق عمر طعم الخيانة، سيقوم الاحتلال بتصفية طارق عبر عمر، وستتزوج نادية مضطرة من أمجد، يحاول عمر أن يغسل ذنوبه خلال عامين قضاهما فى عمله، ولكن الوصمة تطارده، ما زال رجال المقاومة يشكون فيه، سيعرف أيضا أنه تعرض للخديعة من جديد من أمجد، وأن نادية لم تتورط فى علاقة جسدية مع صديقه أمجد، ثم يعود الضابط الإسرائيلى ليكلفه من جديد باستدراج أحد رجال المقاومة، الآن على عمر أن يدرك أن أصل المأساة فى الاحتلال، ليست المشكلة فى الصداقة أو فى الحب، ينتهى فيلمنا برصاصة نعرف اتجاهها، ثم شاشة سوداء، مثلما انتهى «الجنة الآن» ينفس الشاشة السوداء، ولعلها ستبقى دائما ما بقى الاحتلال. ينسج هانى أبو أسعد عالم أبطاله من خلال تفاصيل تنقلها الصورة: الجدار العازل يكاد يكون معادلا بصريا لتلك الجدران التى سيحاول عمر عبورها دون جدوى مع أصدقائه، ومع حبيبته، فى مشهد دال يفشل عمر فى عبور الجدار بخفة بعد تورطه أكثر من الاحتلال، ويساعده رجل عجوز، تبقى فى ذهنك تلك الأشياء الصغيرة التى تكسب الحكاية معناها: خطابات ممزقة، قطة تدور حول نفسها سعيا وراء خيط يمسكه عمر، أرغفة تنتفخ أمام النار، نمل يتحرك على أرضية سجن وسط الظلام، حجم عمر الضخم فى تكوين الصورة، رغم أنه يرفع يديه مكدّرا من جنود الاحتلال، إعلان فى الخلفية عن «غرس الأمل»، بينما يجلس عمر مهددا بين ضغوط الاحتلال وشكوك أصدقائه، وقصة صيد القرود فى أفريقيا التى سيستدعيها عمر فى لقطة النهاية. لا يستخدم هانى أبو أسعد الموسيقى إلا فى مشهد وحيد معبر هو جنازة طارق المغدور، وكأنه الوحيد الذى يستحق رثاء الموسيقى، ربما لا يكون الممثلون رائعين، ولكن المخرج اجتهد كثيرا فى أن يستخرج منهم أفضل ما لديهم، حال الفلسطينى تحت الاحتلال لا يحتاج إلى شرح، أمجد لديه سبع شقيقات عانسات، وشاب يبيع زملائه من أجل تأشيرة للهجرة إلى نيوزيلندا، لم يتوقف السيناريو كثيرا عند عائلة عمر، نراه يأكل معهم، من الواضح أن لديهم اهتمامات أخرى، نسمع حديثا يتردد بينهم عن مباريات الكرة الأوروبية. اختار عمر فى البداية المقاومة، باعتبار أن الاحتلال أصل الشرور، ثم تاه بين الصداقة والحب والخيانة، وعاد إلى دائرة البداية، هكذا هى أفلام هانى أبو أسعد: ضغط يولد الانفجار، وقضايا كبيرة، ولكن من خلال دراما قوية، وتفاصيل إنسانية صغيرة لا تنسى.