«لولا نشأتى على السينما المصرية لما كان اليوم فيلمى (عمر) الذى تشاهدونه، شكرا للسينما المصرية التى تأثرت بها كثيرا وتعلمت منها هى الشاشة والتاريخ الذى قدم لنا اللص والكلاب، والكرنك، والبرىء، ودعاء الكروان.. فقد تربيت بحق على هذه الأفلام.. فتحيا مصر أم الدنيا».. كلمات أصر أن يقولها المخرج الفلسطينى الكبير هانى أبو أسعد قبل عرض فيلمه «عمر» على شاشة مهرجان دبى السينمائى العاشر، وهى الكلمات التى أتمنى أن تُفيق كثيرا من صناع السينما فى مصر وتجعلهم يحيدون عن طريق سلكوه وضلوا خلاله الاتجاه نحو القيمة والمكانة وعبثوا بالتاريخ والتراث. هانى أبو أسعد، صاحب «الجنة الآن» الحاصل على الجولدن جلوب، يقدم هذه المرة فى فيلمه «عمر» الذى فاز بجائزة المهر لأفضل فيلم عربى، صورة سينمائية مدهشة شديدة الواقعية عن مأساة شباب الشعب الفلسطينى تمزج بمفرداتها الفنية الخصبة بين الصراع والحب والخيانة، والبحث عن الاستقرار، وكيف تتحول تلك المأساة الى حلم فى وجود حقيقى وإصرار على إحباط كل محاولات المحتل لكسر عزيمة الفلسطينيين فى المقاومة، بداية من تصويره وسط الأراضى الفلسطينية فى الناصرة وصور ونابلس، وعلى الرغم من ظروف الاحتلال المنهكة، ووجود الجدار العازل سواء بين المدن أو الشعب الفلسطينى مع بعضه البعض، استطاع المخرج بلقطاته اختراق وتصوير طبيعة حياة ومدن فلسطينية بتراثها وأحيائها وأزقتها الضيقة، والتقاطه لكل هذا بسرعة مميزة من خلال حركة البطل'عُمَر' ومحاولته الفِرار من الجيش الاسرائيلى والذى جسده الممثل الفلسطينى (آدم البكرى). تعرض الفيلم لقضايا مهمة بنظرة واقعية شفافة عميقة وجَاذبة، عندما ركّز على قصة حُب 'عُمَر' الشديد للفتاة الفلسطينية «ناديا» الممثلة الفلسطينية (ليم لوبانى). فمن خلال قصة الحب الصادقة تتَكَشّف لنا أمور حقيقية تحدث يوميا فى المجتمع الفلسطينى من حب وخيانة بين الأصدقاء، وما يحدث أيضا فى السجون الاسرائيلية من إهانة وذل غير انسانى للسُجناء الفلسطينيين قبل أن تتأكد التهمة عليهم، والضغوطات النفسية السيّئة التى يلاقونها باستمرار دون رحمة، ففى هذا الفيلم بالذات يتعرض المخرج هانى أبو أسعد إلى مشكلة العَمالة والتواطُؤ مع الاحتلال ضد أبناء البلد الواحد، وهى مشكلة مُعقدة ليست بالسهولة إظهارها أو التعبير عنها بتلك القوة والسلاسة التى أظهرها الفيلم، عندما ضغط الضابط الاسرائيلى راميى الذى. جسده (وليد زعيتر) على عُمَر' بما يمتلكه الأول من معلومات دقيقة عنه للاعتراف بمن قتل فرد الامن الاسرائيلى وتتعقد الأمور بين أصدقاء الطفولة الثلاثة عمر وطارق وأمجد حتى يتحولوا إلى أشخاص يشكّون ببعضهم البعض بعد تنفيذهم لعملية أدّت إلى مقتل جندى إسرائيلى، وتتصاعد الاحداث إلى أن تأتى النهاية القوية التى بقدر ما أثارت تساؤلات عديدة الا انها وضعت النقاط على الحروف بقتل عمر للضابط الاسرائيلى الذى حاول عمل صفقة معه رافضا خيانة أصدقائه فى مشهد النهاية الرائع. الفيلم جاء بأفكار متنوعة واقعية تتحدث عن حياة الشعب الفلسطينى وسيطرة الجدار والجيش الاسرائيلى ومُخابراته على الناس والغرض من ذلك هو الذل وضغط كبير، وكيف أن الفيلم أيضا أعطى الأسباب السياسية والنفسية المقنعة للمقاومة ولكنه لم يُثِر النشطاء السياسيين بل أوضح لهم الرُّؤية ووسَّعها بشكلِها الملائم والذى يحدث على أرض الواقع الفلسطينى المضطرب. طرح العمل سؤالا بات محيرا لدى كثير من الفلسطينيين حول «من هو الخائن؟»، وقد طرح السؤال والاجابة معا فى صدمة بصرية مهد لها بالقصة الرئيسية لعامل المخبز عمر، وهو يتفادى رصاص القنص الإسرائيلى يوميا، وعبر الجدار الفاصل، للقاء حبيبته ناديا. غير أن الأمور تنقلب حينما يعتقل العاشق المناضل من أجل الحرية خلال مواجهة عنيفة مع جنود الاحتلال، تؤدى به الى الاستجواب والقمع. ويعرض الجانب الإسرائيلى على عمر العمل معه مقابل حريته، فيبقى البطل ممزَّقا بين الحياة والرجولة. والواقع ان اداء ممثليه العفوى فى التعبير أعطى بعدا واقعيا لقضية العمل الذى يعتبره ابو اسعد من طينة «الكرنك» و«فى بيتنا رجل» وأفلام أخرى تنتمى للسينما السياسية فقد ابرز عبر سيناريو شديد الحرفية وايقاع متناغم وتقنيات فنية عالية ما تعانيه العائلة الفلسطينية بسبب جدار العزل العنصرى الذى قسم تلك العائلة الفلسطينية الى نصفين، والجدار ليس أكثر من سجن للشعب الفلسطينى، يحاول بطل الأحداث عمر أن يتسلقه كل يوم تقريبا ليتدرب على القنص مع صديقى طفولته طارق وأمجد وايضا كى يرى حبيبته من خلف سور مدرستها والتى بسببها تنقلب الموازين كلها، ليكتشف أنه مهدد فى كل لحظة فحبيبته شقيقة المناضل طارق ويريد الزواج بها. تستمر الأحداث والمعاناة اليومية، وفى المشهد الذى استطاع (عمر) أن يفلت من إنذار سيارة شرطة وهو عائد إلى أرضه من خلال الجدار، توقفه الدورية من الجانب الآخر، تطلب هويته بعد أن يخلع قميصه، يطلب منه الشرطى الوقوف على صخرة تترنح، فيترنح معها، ويقرر فى اليوم الثانى المضى فى عملية ربما للانتقام لكرامته التى أهدرت على أرضه. تنجح العملية التى يشارك فيها أصدقاء الطفولة (عمر وطارق وأمجد) ولكل واحد منهم مهمة، فعلى (عمر) أن يسرق سيارة، وعلى (طارق) تحديد الهدف وعلى (أمجد) قنص الهدف. هانى أبوأسعد اختار فى هذه المرة أن يضع يده على جرح يبدو أنه فاض دما، أراد أن يحكى حقيقة يخجل الفلسطينى صاحب لقب الصامد والمقاوم والشهيد والأسير أن يعلن عنها وهى الشك فيمن يخون القضية. ففى المعتقل حكاية أخرى، البداية تعذيب جسدى، مرورا بإرسال ما يسمى ب«العصفور» الذى يدخل فى علاقة مع السجين ويأخذ منه معلومات، ونهاية بمحاولة تجنيد «الأسير» ليخدم العدو الصهيونى، وهذا ما حدث فعلا مع «عمر» الذى يتعرض لشتى أنواع الابتزاز، خصوصا عندما يتعلق الأمر بحبيبته، فيقرر الاتفاق مع المحقق الإسرائيلى مقابل تسليم صديق طفولته طارق، لكن منذ لحظة خروجه من الأسر، يعى المشاهد أن عمر يريد الحقيقة بكشف الخائن بينهم. فى فلسطين، معروف اجتماعيا إذا ما خرج أسير من المعتقل بشكل سريع فهو على الأرجح اصبح عميلا للعدو، وهنا يتعرض عمر لنبذ اجتماعى، ويتحدى كل هذا، خصوصا ثقة حبيبته به، ويعلن لطارق أن خائنا بينهم، فيقرر الاخير عمل كمين آخر لكشف الخائن، فيوافق عمر الذى يكتشف الحقيقة المؤلمة ان العميل هو امجد والذى يعترف له أن السبب وراء عمالته أنه أقام علاقة مع ناديا وهى حامل منه، ولأنه لا يمتلك النقود باع وطنه مقابل إنقاذ سمعتها وسمعته، وفى مشهد رائع الأداء يصاب عمر بلحظة انهيار، ويقرر أن يقول كل شيء لطارق بحضور أمجد واعدا إياه بحمايته ليس حبا فيه بل لحماية حبيبته التى خانته. يلتقى الأصدقاء الثلاثة مرة أخرى ومن ورائهم بانوراما للوطن المتصدع ويفقد طارق بالجنون السيطرة ويهم بضرب أمجد فى لحظة وصول المحقق الإسرائيلى وجنوده وطلقة برأس طارق توديه شهيدا. يشكر المحقق عملاءه، والاستغراب يبدو على وجه عمر التائه بين وطنه وحبيبته وفقدان الصاحب، وفى تطور درامى عبر سيناريو واع مازال يفجر تساؤلات يذهب عمر مع أمجد إلى بيت ناديا خصوصا بعد أن طلب من الجانب (الإسرائيلي) الاحتفاظ بجثة طارق لمدة شهرين، ويطلب يدها لأمجد، ويهيم فى الأرض تائها، وتخر قواه، خصوصا عندما يحاول تسلق الجدار ولا يستطيع فيبكى مثل طفل فقد مصدر الهام قوته وعزيمته على الوصول للهدف ولمسه ويدرك فيما بعد أنه وقع فى فخ قصة غير حقيقية، فلم تكن ناديا على علاقة بأمجد ولم تحمل منه، لكن عمر لم يستغرب فمن يبيع الوطن يبيع كل شيء. يقرر أخيرا الانتقام، يقصد قائد كتيبة النضال ويحكى له قصة امجد ويخبره بأن المحقق (الإسرائيلي) يريده ويطلب منه القبض عليه، ويكتب رسالة مفصلة إلى حبيبته، ويتصل بالمحقق ويطلب منه مسدسا مقابل تسليم قائد الكتائب الجديد. يأتى المحقق فى الوقت المحدد ويسلمه المسدس، لينتهى المشهد بسؤال من عمر موجه إلى المحقق «بتعرف كيف يموت القرد» ليطلق بعده رصاصة من المسدس على رأس المحقق. وهو المشهد الموحى بأن النضال مستمر مهما كانت محاولات الوقيعة فالنهاية هنا ليست مفتوحة ولكنها ايضا تفتح آفاقا جديدة لصورة رمادية لوطن محاصر بين حياة بلا ضمير او موت بضمير، وقد برع فى ادائه بحق الممثل الشاب آدم البكرى. المخرج هانى أبو أسعد قال إنه كان مضطرا لعمل الفيلم، بعد أن قال صديق له إن عميلا استخباراتيا إسرائيليا حاول تجنيده. مازال هانى أبو اسعد يواصل تألقه وتميزه وتفرده بخصوصية لغته السينمائية التى تسرب لك الحزن والفرحة بهدوء، ويجعل من لحظة تألمك من الصورة لحظة تأمل ومراجعة كبرى لمشهد قضية وطنه اليوم وغدا، واذا كان الجمهور قد صفق له فى مهرجان كان الذى منحه جائزة لجنة التحكيم الخاصة، فإن مهرجان دبى السينمائى العاشر قد منحه الثقة وسط الانتاج العربى ليخطو طريقه نحو المنافسة على أوسكار أفضل فيلم أجنبى.