حاولت أن أكتب عن الصديقة والفنانة العظيمة عطيات الأبنودى أو عطيات عوض، وتعثرت فى البدايات، وذلك لأن كل منجز عند عطيات يصلح بداية، عطيات رحلة كفاح ملحمية كبيرة، من أزقة الهامش المهجور والمهمل والمضطهد، إلى ساحات الإنجاز الفنى المسرحى والسينمائى والثقافى. لن ننسى دورها المتفرد فى كتيبة صناع السينما التسجيلية عبر أفلامها ال22: «حصان الطين» و«أغنية توحة الحزينة» و«سوق الكانتو» و«الساندوتش» و«مناظر من لندن» و«التقدم إلى العمق» و«بحار العطش» و«الأحلام الممكنة» و«نساء البترول» و«إيقاع الحياة» و«عام الوزير مايا» و«حديث الغرفة رقم 8» و«اللى باع واللى اشترى» و«مفكرة الهجرة» و«نساء مسؤولات» و«القتلة يحاكمون الشهيد» و«رغم الاختلافات» و«راوية» و«أحلام البنات» و«أيام الديمقراطية» و«بطلات مصريات». رحلة صنعتها عطيات بجهاد حقيقى ومشقة وقراءة وسهر ليالٍ وإخلاص للعمل لا ينفد ولا ينقطع، رحلة عطيات، حكاية مبهجة رغم مشقتها، ورغم الأحداث الدرامية التى تخللت بعض محطاتها، وحافزة لتجاوز أى إحباطات من الطبيعى أنها تنتاب المثقفين والفنانين الشباب فى أثناء الأزمات التى تمر بها المجتمعات. وعندما قررت الكتابة احترت من أين أبدأ فى هذا البحر المتلاطم الأمواج فى رحلة عطيات الغنية، منذ أن انضمت إلى كتيبة صنّاع السينما التسجيلية، مثلها مثل صلاح التهامى ونبيهة لطفى وآخرين، ولكننى وجدت كنزا يشبه السيرة الذاتية لعطيات. وقد سجلت هذه السيرة فى كتابيها «أيام لم تكن معه» و«أيام السفر»، وفى كل حرف كتبته عطيات فى هذين الكتابين تشعر بنبضها يتحرك أمامك، إنها كتابة بالأبيض والأسود، وليست تتزين بالألوان والمساحيق، كتابة ليس خلفها مخرج يصنع المشهد بدقة وبحرص لكى يعمل على تنقية الصورة من أى شوائب وهنا أنشر رسالتها التى أرسلتها إلى الشاعر عبد الرحمن الأبنودى قبل أن ينفصلا، وفى عزّ توهج العلاقة بينهما، هذه الرسالة مؤرخة فى 20 يونيو 1971، وقد أرسلتها عطيات من لندن، تقول فيها: «عبدالرحمن، إنت وحشتنى قوى وعاوزة أشوفك وأشوف البيت وأشوف مصر، أعتقد أنى غير قادرة على الحياة فى حتة تانية غير مصر، ليس لأى سبب، لكن أحس أنى بوجودى هنا، بألعب لعبة عبثية اسمها الدراسة، والحقيقة الوحيدة اللى أقدر عليها هى العمل والعمل فقط ولا أعتقد كثيرًا فى عودتى تلميذة مرة أخرى، لقد اكتشفت أنى مدللة جدا بالنسبة إلى الإمكانات المتاحة فى مصر وإنى على مستوى السينما فى حدود ما صنعت وما يمكن أن أصنعه ورغم كل النجاحات التى حققتها، ما زلت لا أثق فى نفسى، ويبدو أنى ماشية بطريقة غلط، أريد أن أعود وأناضل فى سبيل عمل السينما التى أريد وفى سبيل أشياء أهملتها كثيرا، مثل مسألة مرتبى والدرجة الوظيفية والعلاوات وبالمرة إنجاب الأطفال!! أحسب حياتى من أولها لآخرها، لقيتنى زى ما إنتَ شايف، عارفة، إنتَ هتقول لى اعقلى واقعدى واستنى، لكن أنا مش عارفة، وأنا مافضلش معايا غير اتنين جنيه، وسألت على فلوس حديث الإذاعة لسه إذن الصرف ماطلعش، لكن أنا دفعت إيجار الأوضة ومعايا أبونيه مواصلات لغاية يوم السبت والأحد بطوله، وأنا اليوم عند د.حلمى مقار وابنة أخته ولا شىء بعد ذلك، أنا لست من الذين سوف يبحثون عن عمل هنا فى الإذاعة فالأمر يبدو مستحيلًا ولن أعمل جرسونة فى مطعم فقد كبرت على هذه الأمور، وحتى مسألة عودتى إلى باريس دون أن يكون معى مليم غير ممكنة ولا أعرف كيف.. أنا متلخبطة.. أنا تعبانة، وليس تعب الإفلاس فقط، ولكن أنا لم أعد فى سن يسمح بالطلب أو السلف أو البحث عن العمل.. أنا فى مصر ملكة، وأحس من مكانى أنى مؤثرة فى العالم، بعكس أنا هنا فى لندن لا شىء غير البرودة والضياع، بالأمس كنت أريد أن أتكلم مع أى شخص لم أجد، وكان علىّ أن أنام 12 ساعة أو 13 ساعة بلا كلمة مع أى شخص بعد اليوم الحافل فى المدرسة وبعد المقابلة والإشادة بى وبأعمالى، لقد وصل بهم الحال أن وصفونى بأننى مستقبل السينما المصرية، فهم لم يشاهدوا أفلاما مصرية جادة بهذا المستوى غير فيلم (المومياء) إخراج شادى عبد السلام الذى لم نشاهده نحن فى مصر، والذى قيل لى بالأمس فوق احتمالى، كنت فى حاجة إليك، المهم أنا لم أقصّر فى شىء، ولكن أرغب فى العمل.. أريد العودة.. مسألة صعبة، إنى أسيبك وأسيب نفسى المدة دى.. من غير ما أشوف بيتنا الملىء بالأصدقاء ومن غير ما أروح المطبعة لطبع ديوان ليك، من غير ما سجل السيرة الهلالية وأسافر معاك فى كل حتة.. عاوزة أرجع.. محتارة.. أرجوك قول لى تعالى وسيبى الدنيا وتعالى.. طبعا هانتظر لغاية يوم الاتنين 26 يونيو علشان آخد الورقة من المدرسة اللى فيها تقرير بالنتيجة عنى.. سآخذها وأعود، سأمر على باريس ربما أجد منك خطابا على عنوان رائف كما اتفقنا، ربما يكون هذا هو السبب الوحيد بعد ضرورة التوقف فى باريس بسبب التذكرة، لأنى أريد أن أعرف وجهة نظرك قبل وصولى إلى القاهرة.. فرّغت جزءًا من تسجيلات شرائط السيرة الهلالية وأنا قابعة فى غرفة الفيران على السطوح تحت البطاطين فى البرد، كانت إنقاذا لى من الوحشة...»، هذا جزء حىّ من حياة عطيات الأبنودى العظيمة، والتى نحتاج نحن بالفعل إلى تكريمها بما يليق بفنانة عظيمة، أعطت بلادها كل حياتها وجهدها وفنها دون انتظار أى شىء.