كثيرا ما تنصب نقمة الأدباء والنقاد والقراء كذلك على النقد الأدبى، واعتباره كارثة تعمل على تعويق المبدع والإبداع والكتابة عموما، أحيانا يتواتر الهجوم على اختفاء النقد والنقاد، وأحيانا يدور نقد النقد حول خفته أو سطحيته أو انحيازاته السياسية التى تفسد الأدب عموما، فليس المبدع محللا سياسيا لكى يرصد القضايا التحررية والديمقراطية والنيابية، وعلى الأدب أن يتحرر بالفعل من هذه التبعية السياسية المدمرة. لذلك تنفجر الأسئلة حول النقد الأدبى بين الحين والآخر فى الصحف والمجلات والحياة الأدبية والثقافية والفكرية دوما، ويحاول الأدباء والنقاد أن يطرحوا أفكارهم، ويحددوا القضايا والمشكلات والأزمات، وغالبا ماتكون هذه العناصر وطرحها مكررة فى مراحل مختلفة من الزمان، رغم تغير الرموز والأسماء والتوجهات وشكل المرحلة كلها وشتى أنواع الأدب واتجاهاته، ولكن ظل النقد الأدبى دوما حمّالا ل«الأسيّة»، مسؤولا عن الخراب الثقافى، شيّالا لقضايا السطحية والتفاهة والشللية والنفعية دوما. لذلك طرح الناقد الدكتور على الراعى فى صفحته الأسبوعية التى كان يشرف عليها فى صحيفة «المساء» تلك القضية للحوار والتحقيق والتداول، وكتب فى عموده الذى يتصدر الصفحة فى 19 يونيو 1957 يقول: «تنشر صفحة الأدب اليوم حلقة أولى من تحقيق صحفى ذى ثلاث حلقات حول موضوع -أزمة النقد الأدبى فى مصر- إنها المشكلة التى تتحدث عنها الدوائر الأدبية اليوم بشىء من الاستفاضة، وكثير من العنف، وغير قليل من المرارة». ويضع الراعى يده على جوهر الحوار حول هذه القضية، عندما يلاحظ أن قدرا من التعميم يدور فى المناقشات، هذا التعميم الذى يخلط الباطل بالعاطل كما يقولون، ويمزج الغث بالثمين، والجاد بالهزلى، وطرح الراعى بضعة أسئلة ليدور فيها التحقيق الذى أنجزه بالفعل الشاعر والكاتب السودانى جيلى عبد الرحمن، واستنطق فيه كل أطراف القضية، وفى عاموده، لم ينسَ الراعى أن الصفحة ستعطى مساحة وافية وكافية لكى يدلى القراء بأفكارهم وآرائهم، باعتبار أن القارئ طرف رئيسى فى هذه القضية الحيوية. وفى الحلقة الأولى تكلم ثلاثة من فرسان النقد ونجومه ومحركيه ومفجرى مضامينه الجوهرية فى ذلك الوقت، وكانت هذه المرحلة منشغلة بقضايا فكرية ونقدية ذات أهمية شديدة، إذ كنا فى أعقاب ثورة 23 يوليو 1952، وبالتالى فكانت هناك أصوات مختلفة أرادت أن تعبّر عن نفسها، وبالفعل دارت معارك ضارية بين نقاد وكتاب ومبدعين مثل طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم ومحمد مندور ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ويوسف السباعى ونجيب سرور وعلى الراعى وأحمد عباس صالح وغيرهم. بدأ عبد القادر القط حديثه ب«فى مصر نشاط كبير فى النقد الأدبى، ولكنه نشاط غير مثمر، ذلك لأن النقاد لا يبذلون من الجهد فى كتاباتهم ما يلائم جدية الأعمال التى ينقدونها.. إنهم يكتفون بمقالات سريعة موجزة، وينتهون إلى أحكام خطيرة، دون أن يمهدوا لها بدراسة مستفيضة مخلصة»، وعزا القط ذلك إلى أن السبب الرئيسى فى هذه القضية يعود إلى أن النقاد ينشرون مقالاتهم فى الصحافة اليومية، والتى تفرض بدورها مساحة ضيقة، وربما تأتى بلغة مبسطة لدرجة الإخلال بالفكرة النقدية العميقة، وهذا يعود إلى أن الصحف نفسها كانت وما زالت تعتبر وجود الأدب على صفحاتها، يمثل حلية أو زينة. ويضرب القط مثالًا على ذلك الفقر النقدى قائلا: «تصور أن مسرحية ألفها كاتب، وأخرجها مخرج، واشترك فى تمثيلها عشرون أو ثلاثون ممثلا، تصدر عليهم أحكام نهائية فى ما لا يزيد على عامود واحد!.. إننى أرى أن المقالة النقدية لا تستمد قيمتها مما بها من أحكام بقدر ما تستمدها من طريقة الوصول إلى هذه الأحكام، وما تثيره من مشكلات فنية، عن طريق المقارنة والاستشهاد، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا فى بحث مفصل»، ثم يضرب القط مثالا حيًّا حدث فى تلك الفترة، عندما كتب الشاعر نجيب سرور مقالا يرد فيه على محمود أمين العالم حول مقاله عن ديوان «الناس فى بلادى» لصلاح عبد الصبور لمجلة «الرسالة الجديدة»، ولكن المحرر رأى أن المقال طويل جدا، وطلب من سرور اختصاره، وبالفعل اختصره سرور من صفحتين ونصف الصفحة إلى صفحتين، وأعاده مرة أخرى إلى المجلة، ولكن المجلة لم تنشره على الإطلاق، وهذا ما كان يحدث مع النقاد الجادين فى تلك الفترة، كما يقرر القط. عبد القادر القط يطرح القضية ويلقى بها فى ملعب الصحافة الأدبية، وبنظرة بسيطة إلى أفكاره حول الأزمة، يتضح أنها من الممكن أن تجد حلولا لها، تحققت الوفرة والدأب فى طرح القضايا المتعلقة بالنقد الأدبى باستفاضة وإخلاص، ولكننا سنلاحظ أن الناقد أنور المعداوى يتهم النقاد أنفسهم، ويقسمهم إلى نقاد ملتزمين أو نقاد صحفيين أو نقاد غير متخصصين، ومن الواضح أنه أهال قدرا كبيرا من السخط على هذه النوعيات من النقاد المنتشرين والمتوفرين بغزارة فى تلك المرحلة، واعتبر كما قرر القط أن نقاد الصحافة السريعة، هم أخطر هؤلاء النقاد، لأنهم هم الذين يتصدرون المشهد فى الصحف التى يتداولها الناس، وهم الأكثر وصولا إليهم، أما النقاد الملتزمون، فهم يحصرون قراءة النصوص وفقا لأيديولوجيات وأفكار خاصة بهم وباتجاهاتهم أكثر مما تخص النقد الأدبى، ومن هنا ينتشر النقد الأيديولوجى الضيق، والذى يكون غالبا مضللا. وعندما تكلم محمود أمين العالم، لم ير أن هناك أزمة نقدية على الإطلاق، وأقرّ أن النقد الأدبى لا بد أن يكون ملتزما بقضية ما، ومن الضرورى أن يتناول النصوص الإبداعية من وجهة نظر فلسفية واجتماعية شاملة. هكذا تحدث النقاد، وما أشبه اليوم بالبارحة.