استقبل البعض قرار «الكونجرس» باستئناف المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر بقيمة 1.3 مليار دولار بترحاب شديد يصل إلى حد «الانبهار»، كأنه قرار مفاجئ لم يكن فى الحسبان، فى حين أن الواقع يقول غير ذلك، فما حدث وما سيحدث فى القريب العاجل هو مجرد تحصيل حاصل، وأنه «إجراء» لا بد منه حتى لا تجد أمريكا نفسها بأنها أصبحت بقدرة قادر خارج خريطة التوازنات داخل منطقتنا التى تمثل بالنسبة إليها ولمصالحها مسألة حياة أو موت، وهى الخريطة التى تشكلت ملامحها الرئيسية، تزامنًا مع التغيير الكبير الذى طرأ على علاقات مصر الدولية. فبعد ثورة يونيو لم تعد السياسة الخارجية المصرية أحادية «التوجه»، كما كانت من قبل، حيث غيّرت «بوصلتها الدبلوماسية» بالكامل، فولت وجهها شطر المشرق والمغرب، ليس هذا فقط، بل اتجهت نحو الشمال والجنوب أيضًا، فأصبحت سياسة مصر الخارجية تسير فى مسارات أخرى غير تلك التى كانت ترسم ملامحها الولاياتالمتحدة، وتضع لها «خط السير» الذى تلتزم به حرفيا. مما يجعلنا نضع أيدينا على حقيقة مؤكدة، وهى أن ما فعله الكونجرس الأمريكى بقراره المتعلق بالمساعدات العسكرية هو «عين العقل»، بل هى خطوة، ما كان يجب أن تتأخر أكثر من ذلك.. ليس من أجل مصر التى كانت إلى وقت قريب من أهم حلفائهم الاستراتيجيين، وإنما تكمن قيمة القرار الأمريكى الحقيقية فى كونه خطوة مهمة فى إطار التعهد والالتزام الأمريكى لتقديم مساعدات عسكرية إلى مصر، فى مقابل الحفاظ على معاهدة السلام المبرمة بين مصر وإسرائيل، عقب حرب أكتوبر 1973، وبالتالى حماية مصالح أمريكا فى المنطقة، باعتبار أن أمن إسرائيل هو جزء لا يتجزأ من أمن أمريكا. فهل كان من الممكن أن تغامر الولاياتالمتحدةالأمريكية بفقد ما تبقى لها من «دلال» على مصر؟ وهل هى من السذاجة حتى تترك سوقا مهمة للسلاح مثل السوق المصرية بعد أن اتجهت مصر مؤخرًا بقوة نحو روسيا وفرنسا بتوقيع صفقات سلاح متطور جدا ليس خافيًا على أحد أهميتها فى تغيير موازين القوى الإقليمية والدولية؟ ومن يتابع مؤشر العلاقات المصرية الأمريكية وتذبذبها صعودًا وهبوطًا خلال السنوات الأخيرة فسرف يَعى جيدًا أنه لا أمان للأمريكان الذين أظهروا لنا وجههم القبيح فى أصعب الأوقات التى عشناها عقب ثورة 25 يناير التى كانت للأسف الشديد إحدى أوراق اللعبة الأمريكية لتغيير شكل المنطقة العربية بالكامل، بل إنها أثبتت وبما لا يدع مجالاً للشك أن «المتغطى بأمريكا عريان»، فقد اتخذت السياسة الأمريكية تجاه مصر خطا عدائيا كان فى ظاهره الرحمة، بينما فى باطنه العذاب. فهل القرار الأمريكى باستئناف تقديم المساعدات العسكرية لمصر كافٍ لغيير نظرتنا تجاه السياسة الأمريكية؟ أعتقد أن هذا القرار ما هو إلا حلقة جديدة فى مسلسل «المماطلة» الأمريكية واللعب بأعصاب سياسة الخارجية المصرية، وستثبت لنا الأيام القليلة القادمة أن الإدارة الأمريكية سوف تستخدم سلاح «المساعدات العسكرية» وسيلة للضغط على توجهات مصر الخارجية من أجل حماية مصالحها، وإن كنت أشك فى جدوى هذا الأسلوب الذى فقد جدواه، بل انتهى عمره الافتراضى، خصوصًا مع التغيير الجذرى فى طريقة تفكير القيادة السياسية المصرية، فما كان «عاديا» ومقبولا مع نظام مبارك، أصبح صعبًا، بل من المستحيل العمل به بأى حال من الأحوال مع الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى يرفض بشكل قاطع «التبعية» لأى قوى دولية مهما كانت سطوتها، كما يرفض رفضًا قاطعًا سياسة «العصا والجزرة» التى تحترفها أمريكا التى ظلت من خلالها لعدة سنوات تحتفظ بقوتها وجبروتها فى المنطقة.