كتب - محمد شرف الدين "سجن تدمر في سوريا، سالت الكثير من الدماء وراء قضبانه، ولو أحرق فلن تُطهر نيرانه روح الصحراء التي سلبت آلاف الأرواح ظلمًا"، هكذا وصف موقع "كريمينال جاستيس" السجن الذي صار جزءًا من التاريخ عقب تدميره أمس على يد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، لتُطوى صفحته كما طوت جدرانه صفحات حياة ضحاياه على مدار نصف قرن من النيران والدماء. اليوم هو 27 يونيو 1980، مروحيات الجيش العربي السوري تحلق في عتمة الليل متجهة إلى تلك البقعة الصحراوية التي تبعد 200 كيلومتر شمال شرقي العاصمة دمشق، إنه سجن تدمر المكتظ بآلاف المعتقلين السياسيين مختلفي التوجهات، يجمعهم شيء واحد في هذا المكان، هو أن النظام السوري بقيادة حافظ الأسد يراهم يمثلون خطرًا، كل من يتنفس بصوت عال يمثل خطرًا على النظام التقدمي المقاوم الذي اعتاد أن يتلقى الهزائم النكراء كلما إصطدم بإسرائيل، التي وصل جيشها إلى مسافة 40 كيلومتر فقط من دمشق خلال حرب 1973. نحو 200 جندي من قوات سرايا الدفاع الخاضعة لقيادة شقيق الرئيس السوري "رفعت الأسد"، تهبط من المروحيات إلى ساحة السجن وتنقسم إلى 6 فصائل، يتجه كل منها إلى أحد المهاجع حيث آلاف السجناء - معظمهم من الإسلاميين - يغطون في نومهم وسط كوابيس عن "حفلات التعذيب" التي تنتظرهم بالغد، ولكن يبدوا أنهم لن يتعرضوا للتعذيب مجددًا، ما بين 1000 إلى 2000 سجين لم يجدوا الوقت الكافي للصراخ، فقد اخترقت الرصاصات أجسادهم وهم نيام، احتاجت إدارة السجن نحو أسبوعين لتنظيف الدماء التي خلفتها المجزرة، والتي جاءت ردًا على محاولة اغتيال فاشلة لحافظ الأسد، أُتهمت بتنفيذها جماعة الإخوان المسلمين. يقول "أسامة الحلاق" الذي أُعتقل بالسجن في 24 فبراير 1981، أي بعد 8 شهور من المذبحة "رأيت آثار الطلقات على سقف وجدران المهجع، وكان من جملة ما رأيته قطعة من فروة رأس أحد السجناء ملتصقة بسقف الغرفة". ويضيف الحلاق "ما بين عام 1980 و1996 كان زبانية النظام يدفنون الجثث في منطقة قريبة من السجن، تسمى "وادي عويضة"، حيث دُفن هناك ما يزيد على 20 ألف سجين، ممن قضوا تحت التعذيب، أو أُعدموا في باحات السجن، أذكر أني رأيت إعدام 200 شخص في يوم واحد، وبعد أن يتم الإعدام تأتي شاحنة كبيرة، حيث كان يمسك اثنين من الجنود بالجثة ويلوحون بها ثم يرمونها داخل الشاحنة، وكنا نحصي عدد الجثث من صوت الارتطام". "يبدو أن السجن قد تم تصميمه لإحداث الدرجة القصوى من المعاناة والإذلال والخوف على السجناء، وإبقائهم تحت سيطرة مطلقة عن طريق كسر أرواحهم".. منظمة العفو الدولية 2001 يعود تاريخ السجن إلى الثلاثينيات من القرن المنصرم، عندما أنشأته السلطات الفرنسية كثكنة عسكرية، بالقرب من آثار مدينة تدمر "Palmyra" عاصمة الملكة زنوبيا "Zenobia"، التي أعلنت عصيانها ضد الدولة الرومانية وخاصت ضدها حروبًا طويلة في القرن الثالث الميلادي، ونجحت في ضم الشام ومصر والعراق وآسيا الصغرى تحت سيطرتها، قبل أن تسقط هي وعاصمتها في قبضة الإمبراطور الروماني أورليانوس "Aurelianus" في عام 272 م. في عام 1966 تحولت الثكنة الفرنسية القديمة إلى سجن جهنمي، تقول منظمات حقوقية سورية ودولية إن الآلاف قد سُلبت أرواحهم داخل ثناياه المرعبة في الفترة ما بين 1966 و2001 عندما صعد بشار الأسد إلى سُدة الحكم، وأعلن إغلاق السجن سيء السُمعة، في محاولة لإيهام العالم ببدء عهد جديد، ولكنه في الحقيقة كان قد نقل معتقليه إلى سجن صيدنايا الذي يبعد 30 كم عن دمشق، والذي لا يقل زبانيته وحشية عن نظرائهم في تدمر، ففي 5 يوليو 2008 فتحت الشرطة العسكرية بصيدنايا النيران على السجناء وأردت منهم عشرات القتلى. "الحياة في تدمر أشبه بالسير في حقل ألغام، فقد يفاجئك الموت في أي لحظة، إما بسبب التعذيب، أو وحشية السجَّانين، أو المرض، أو الإعدام".. منظمة العفو الدولية 2001 مع اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس 2011 أعاد بشار الأسد إطلاق وحش تدمر على شعبه، حيث افتتح السجن من جديد ليستقبل نحو 20 ألف معارض، قضى العديد منهم تحت التعذيب. علي أبو دهن، الذي أُعتقل في سجون النظام السوري بين عامي 1987 و2000، ومؤلف كتاب "العائد من جهنم"، يتحدث عن معتقلي تدمر قائلًا "إضافة إلى العذاب النفسي والجسدي الذي يعانونه، فهم يعيشون خارج الواقع مغيبين قسرًا عن كل ما يحصل في الخارج، لا أستبعد أنهم يظنون أنّ ما يحصل حولهم هو اجتياح إسرائيلي لسوريا!». "سجن تدمر العسكري أصبح مرادفًا للمعاناة والألم، وتُجرّد الأوضاع فيه الإنسانَ من إنسانيته وتهبط به إلى مستوى بهيمي".. منظمة العفو الدولية 2001 تُعد رواية القوقعة للكاتب مصطفى خليفة من أشهر ما كُتب عن السجن، حيث يحكي فيها الكاتب المسيحي الذي اعتقله النظام السوري بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين معاناته في أعماق جحيم تدمر، يقول خليفة في روايته "في السجن الصحراوي، سيتساوى لديك الموت والحياة، وفي لحظات يصبح الموت أمنية"، ومن المؤلفات التي تناولت الأمر أيضًا "من تدمر إلى هارفارد" للدكتور براء سراج، الذي قضى 12 عامًا من عمره داخل السجون السورية. في 13 مارس الماضي، أعلن المرصد السوري لحقوق الانسان أنه تمكن من توثيق تصفية 12 ألف و751 معتقلًا داخل سجون النظام السوري منذ انطلاق الثورة، موضحًا أن من بين الضحايا 108 أطفال، دون سن ال18. ربما لم تكن سيطرة "داعش" على تدمر بالخبر السعيد بالنسبة للكثيرين ممن يرون التنظيم لا يقل وحشية وإرهابًا ودموية عن نظام البعث السوري، ولكن ربما لم يستطع الكثيرون أيضًا من أهالي الضحايا الذين قتلوا وفُقدوا في غياهب هذا الصرح الدموي أن يحبسوا دموعهم وهم يشاهدونه ينفجر متحولًا إلى رماد، بعدما كانت كل وظيفته خلال 5 عقود من الزمان أن يحيل البشر إلى تراب.