يُعد النظام الطبقى المفتوح، أى الذى تتوفر فيه معايير موضوعية للترقى الطبقى يتاح الوصول إليها للمنتمين إلى الطبقات الأدنى، عاملا أساسيا للتماسك والاستقرار وانخفاض حدة الصراع فى أى مجتمع من المجتمعات. وبالمثل فإنه بقدر ما تستجيب معايير الترقى تلك لشروط النهضة والتقدم عالمية الطابع فى عصر من العصور، فإن إتاحة الحراك الطبقى من خلال تلك المعايير يصبح أحد أهم محفزات نهضة أى أمة من الأمم. ويتعين لكى يمكن أن تتعزز تلك العلاقة بين الحراك الطبقى وما يمكن تسميته «معايير النهضة» أن يتوافر فى السياق الداخلى للدولة، أو حتى فى السياقات الإقليمية والدولية المحيطة بها، طلبا فعليا وفعالا على ما يمكن أن يتيحه الالتحاق بتلك المعايير من منتج بشرى أكثر تطورا وتعبيرا عنها. ظل توافر الطلب على «معايير النهضة» تاريخيا هو المدخل الأول للنضال من أجل إتاحة حراك اجتماعى أكثر عدالة وموضوعية وإيجابية، بحسب ما تكشف خبرة الأمم والمجتمعات الأوروبية التى حازت السبق فى ارتقاء سلم القوة العالمى منذ بدايات القرن السادس عشر. وعرفت الدولة المصرية الحديثة بعض من ذلك مع بداية تأسيسها فى مطلع القرن التاسع عشر. إلا أن معضلة تجربة التحديث المصرية، وبدرجة من التبسيط توائم حدود مساحة هذا المقال، تمثلت فى أن طلب الدولة المصرية على تلك المعايير يتم فى سياقات إقليمية ودولية غير عادلة وشديد التمييز لمصلحة هيكل قوة عالمى عنيف ومناوئ لمساعى النمو والنهضة التى تنبع من خارجه. حدّت هذه السياقات من أفق نمو الدولة المصرية حتى الآن، وقيدت من طلبها على «معايير النهضة»، وبالتالى من إمكانية ان تصبح تلك المعايير ركيزة حراك مجتمعى واسع النطاق. عرفت مصر خلال الحقبة الخديوية قنوات حراك طبقى شديدة الضيق والتحكمية، حددتها، من جهة، احتياجات نمو الدولة وبناء قوتها ومن جهة ثانية، مسعى حاكم للحفاظ على هيكل طبقى جامد بدرجة كبيرة لم يواجه أى محفزات نهضة حقيقية تستلزم جعله أكثر انفتاحا بما يضمن توظيفا أكثر كفاءة وشمولا لقدرات المجتمع فى مجمله. ظلت معايير الترقى الطبقى لذلك عاجزة عن ضمان التماسك والاستقرار المجتمعيين، ما فتح الباب أمام صراع اجتماعى واسع انتهى إلى تفجر ثورة 23 يوليو 1952، وانتهاجها سياسات عززت شعبيتها، بقدر ما استنفزت تجربتها واستنزفت الدولة نفسها لاحقا، قبل ان تفتح المجال لاحقا أمام تشوه معايير الترقى الطبقى منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين. اعتمدت التجربة الناصرية، وفقا لرؤية أخذت تسود الفكر المصرى منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، على إتاحة «معايير النهضة» من تعليم ورعاية مجتمعية، بعَدّ ذلك، وفى توجه معاكس للخبرة التاريخية، المدخل الرئيسى أمام إتاحة الترقى الطبقى أمام الفئات الأكثر تهميشا، وأمام نهضة المجتمع بأسره. فتحت التجربة الناصرية المجال واسعا أمام تطبيق تلك الرؤية على نطاق غير مسبوق فى التاريخ المصرى بأسره، إلا أنها غيبت تحديين رئيسيين، ما أدى إلى تفاقمهما وتعثر التجربة كلها لاحقا، وهما: 1- محدودية أفق النمو المتاح أمام الدولة فى ذلك الوقت، جراء ضعف الطلب المحلى من جهة والقيود المفروضة من قِبل النظام الدولى المهيمن وغير العادل والتى بلغت منذ مرحلة متقدمة حد الصراع مع نظام يوليو ومشروعه. أدت سياسات يوليو إلى زيادة ما يمكن تسميته «معدلات التدفق الطبقى» باتجاه الطبقة الوسطى تحديدا، وبالرغم من التزام هذا التدفق بمعايير النهضة نظريا، فإن عدم القدرة التنموية للدولة فى ذلك الحين على استيعاب هذا التدفق بشكل كفؤ أدى إلى إهدار لاحق لقيمة تلك المعايير وأهميتها فى العقل الجمعى المصرى. 2- العجز الداخلى عن استيعاب تدفق طبقى داخلى واسع النطاق، والذى واجهته دولة ما قبل يوليو 1952 بمحاولة تقييد الحراك الطبقى عامة. حدا ذلك بنظام يوليو إلى استبدال جهاز الدولة بقدرات النمو المجتمعية ممثلة فى نظام السوق الحر من أجل استيعاب هذا التدفق المجتمعى الهائل. لكن قدرات الدولة ذاتها وحدود النمو المتاحة أمامها لم يكن يمكنهما بالمثل استيعاب هذا التدفق ما أدى إلى ازدياد العبء الاجتماعى على الدولة من جهة، وإفقاد المجتمع حيويته وإبداعه الذاتيين، من جهة أخرى. أدى فائض العبء المجتمعى الذى أطلقته ثورة يوليو إلى الضغط بشدة على موارد الدولة ومعايير النهضة على السواء ما أدى إلى إهدارهما بدرجة كبيرة، وقاد إلى موجه تشوه الترقى الطبقى التى تصاعدت منذ منتصف السبعينيات مع شروع الدولة فى التخلى عن وظيفة استيعاب هذا التدفق المجتمعى الذى لم يعد بالإمكان وقفه أو تجميده. وتستلزم الاستجابة إلى التحدى الذى تواجهه الدولة المصرية فى التعاطى مع أزمة الحراك المجتمعى فى اللحظة الراهنة، مدخليين أساسيين: 1- إطلاق طاقات الدولة والمجتمع عبر اندماج أكثر فاعلية فى نظام عالمى يتيح لها فرص وآفاق نمو اكثر رحابة وعدالة، ما يحدد ضرورة انخراط الدولة المصرية فى الجهد والنضال العالميين من أجل مراجعة بنية النظام العالمى الراهن، والانفتاح على كافة القوى والأطراف الفاعلة فى هذا السياق. 2- استعادة أهمية «معايير النهضة» من علم وإبداع كمدخل للترقى المجتمعى، ولن يتحقق ذلك باستعادة دور الدولة المحتكرة لعملية الإنتاج والتوزيع أو مواصة التحالف مع نخبة محتكرة مغلقة، ولكن من خلال تحرير حقيقى وعادل للسوق، وتوفير الحوافز لاقتصاد المعرفة والإبداع فى كل قطاعات الإنتاج المصرية، بما يتيح للمجتمع ان يبدأ فى أن يرشد ذاتيا معاييره للترقى الطبقى.