هل تنهى استقالة وزير العدل المصرى السابق محفوظ صابر حالة الجدل المجتمعى الواسعة التى أثارتها تصريحات له تحفظ فيها على تولى أبناء بعض الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا ممثلا بعمال النظافة مناصب قضائية؟ وهل يعد هذا الجدل المجتمعى المنتقد فى مجمله لمعانى الانغلاق الطبقى والنخبوى التى تم تأويلها من تصريحات وزير العدل دليلا على مجتمع يسعى إلى تكريس نموذج أكثر حرية وعدالة للانفتاح الطبقى والحراك الاجتماعي؟ وهل تعد تلك الاستقالة فى ذاتها مؤشرا موضوعيا لتوجه الدولة نحو تبنى معايير تجنيد أكثر عدالة وانفتاحا فى بناء النخبة السياسية بمعناها الواسع؟ والأهم هل يعانى المجتمع المصرى بالفعل انغلاقا طبقيا وجمودا فى معايير التجنيد السياسى فيه؟ فى الإجابة على السؤال الأول، فقد تراجعت بالفعل حدة الجدل المجتمعى المشار إليه بدرجة كبيرة فور استقالة الوزير يوم الاثنين الماضى، ونظنها ستنزوى تماما وتختفى خلال أيام معدودة بما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وبدا مع هذا التراجع تحول كبير فى مضمون الجدل من انتقاد طبيعة العلاقات الطبقية فى مصر إلى احتفاء بانتصار كل من شارك فى حملة الانتقادات لتصريحات الوزير المستقيل، انتصار يعجب المرء أنه لا ينبع من حل أزمة العلاقات الطبقية التى عبروا عنها فى انتقاداتهم، بقدر ما ينبع من شعور موهوم بالانتصار على السلطة. بعبارة أخرى، باتت مجرد استقالة الوزير عنوان للانتصار وليس الوصول إلى إصلاح حقيقى للمشكلات التى تعانيها مصر سلطة ومجتمعا. وفى الواقع فإن هذا النمط من الخطاب السياسى والمجتمعى الذى يختزل مشكلات مصر فى مجرد صراع مع السلطة القائمة، دون أى معالجة حقيقية للعوامل الهيكلية لتلك المشكلات، بقدر ما بات يمثل مظهرا من مظاهر العجز الفكرى والمعرفى عن تحديد العوامل الحقيقية لمشكلاتنا، فقد بات بذاته أحد عوامل تفاقم تلك المشكلات لأنه يغيب الاقتراب الإيجابى من المشكلات وحلولها الممكنة عن فضاءات الحوار السياسى والمجتمعى فى البلاد لمصلحة التنافس على السلطة أو معها. وتقدم تلك الحالة العدمية من اختزال كل الحوار السياسى والمجتمعى فى محاولة نفى سلطة قائمة إجابة سلبية عن السؤال الثانى، ذلك أنه مرة أخرى يكتفى من يتصدرون مشهد إدارة أى حوار أو جدل مجتمعى بمجرد استغلاله سياسيا دون التفات حقيقى لسبل حل ما أثاره من مشكلات أو تلبية ما يعبر عنه من احتياجات. وفى الواقع، فإن افتقار النخبة أو قادة الرأى لهذه القدرة على الاقتراب الإيجابى مع قضايا المجتمع، أو تغافلهما عنها سعيا وراء أطماع سلطوية تتغذى من معاناة الناس وآلامهم، لن يكون له من نتيجة سواء الانزواء لسريع لأمثال هؤلاء من المشهد السياسى ونفيهم اجتماعيا، وهو ما شهدنا أمثلة كثير له منذ حراك 25 يناير 2011 الثورى، لكن المعضلة أن المجتمع، فى غضون ذلك، سيواصل سعيه للحثيث للحياة وإن كان بمعايير شائهة وسلبية. إذا كان الاستغلال السلبى لمشكلات المجتمع أحد المظاهر الخطيرة التى كشف عنها الجدل الذى أثارته تصريحات الوزير المستقيل، فإن لا موضوعية الطرح، أو بمعنى أدق تشوه الطرح من قبل الوزير ومنتقديه، يعد مظهرا من المظاهر شديدة الخطورة التى كشف عنها هذا الجدل فيما يتعلق بتعريف ماهية مشكلاتنا بداية قبل البحث فى سبل حلها. ونظن بداية أن حديث الوزير عن عدم ملائمة الوسط الذى ينتمى إليه ابن عامل نظافة بسيط ليكون مصدرا للتجنيد للمناصب القضائية لا يعكس نزوعا إلى الانغلاق الطبقى، بقدر ما يعكس رؤية مشوهة لمعايير الترقى الطبقى. فالمؤكد أن المجتمع المصرى شهد منذ منتصف السبعينيات صعود الكثير من أمثال هؤلاء الذين كانوا يمتهنون مهنًا بسيطة من حيث الدخل إلى مراكز طبقية أعلى بمعايير الدخل ومستوى المعيشة، إما بسبب ازدياد الطلب على الخدمة أو المنتج الذى يقدمونه، مثل كثير ممن يعملون فى مجال العقارات والبناء أو الأطعمة الشعبية أو حتى ممن يعملون فى مجال جمع القمامة أو إعادة تدويرها وغيرهم؛ وإما بسبب إمكانية حصول البعض على دخول مرتفعة نتيجة أنشطة غير مشروعة مثل تجارة السلاح أو المخدرات وقدرتهم على غسيل الأموال الناتجة هن هذه الأنشطة، أو نتيجة الالتحاق بالعمل فى بلاد ذات متوسط دخول مرتفعة عما هو موجود فى مصر. كل هؤلاء لم يكونوا بأى حال موضوعا لعزل طبقى بسبب خلفياتهم المهنية أو الطبقية، وأصبحوا يشكلون جزءا مهما من الطبقة الوسطى المصرية بل وأضحى بعضهم يحظى بمكانة اجتماعية، وأحيانا سياسية متميزة. وسرعان ما تغيرت بالمثل المسميات التى تستخدم لتوصيف انتمائهم المهنى لتلائم وضعهم الاقتصادى الجديد ولتتيح لهم اندماجا سهلا فى الطبقات الجديدة التى ارتقوا عليها ولعل أبرز الأمثلة لذلك هو التوسع الشائه فى مفهومى «رجل الأعمال»، ولاحقا «الحاج» ليستوعبا، وبالمخالفة لمدلولاتهما الأولى الإيجابية، هذا الطيف المتزايد وغير المتجانس من الصاعدين طبقيا. بعبارة أخرى، لا يبدو أن المجتمع المصرى يعرف انغلاقا طبقيا صارما مثلما توحى تصريحات الوزير المستقيل، أو حتى تقييدا طبقيا كبيرا مثلما كان عليه الحال قبل ثورة يوليو 1952. لكن ما تعكسه تصريحات الوزير، وما غيبته الانتقادات التى واجهتها، هو تشوه معايير الترقى الطبقى وعدم تجانسها، لتصبح مثلما عكسه فهم الوزير المستقبل قاصرة على الوضع المادى، بغض النظر عما تأسس عليه هذا الوضع المادى من نمط إنتاج أو قيم أكثر رقيا أو تحضرا أو حتى التزاما خلقيا أو قانونيا. كيف حدث هذا التشوه، وهل من سبيل لتجاوزه، هو ما سنحاول مناقشته فى مقال لاحق.