رنا عبدالحميد أمريكية من أصل مصرى، تذكر الاسم جيداً، ولا تفاجأ إذا تم الإعلان عن انتخابها، فى نفس الموقع الشاغر بعد نجاح زهران ممدانى، عمدة لمدينة نيويورك. أجواء زيارتى الأخيرة لنيويورك منذ أسابيع كانت مختلفة، استثنائية بامتياز، فقد ترافقت مع الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية لحملة زهران ممداني، كأول مسلم يترشح على منصب عمدة مدينة نيوريوك، وطبيعة الحملة التى خاضها، والتى اعتمدت على التواصل المباشر مع جمهوره وعلى متطوعين شباب من جنسيات مختلفة، شاهدتهم أمام مسجد الإيمان أثناء صلاة الجمعة، يوزعون منشوراته التى تلخص برنامجه، الذى يعتمد ليس على قضايا سياسية، وهى مغرية لأى مرشح تقليدي، ولكن تفكير الجيل الثانى مختلف، وهم من أبناء المهاجرين من كل دول العالم، وُولدوا فى أمريكا واكتسبوا جنسيتها، فأدركوا أن أقرب طريق لعقل الناخب، هو اجتياحاته الحياتية، ارتفاع الإيجارات، الحق فى العلاج، وتوفير دعم الدولة لمحدودى الدخل، والمواصلات المجانية، وهى القضايا، التى حظيت باهتمام حملته واحتلت كل لقاءاته. ولعل الحدث الأبرز، والذى يفوق حتى معركة ممدانى الانتخابية، والمفاجأة السعيدة، التى زلزلتنى تماماً، عندما كنت مع إخوتى عبدالمنعم وخالد وهما من المقيمين فى أمريكا منذ ثمانينيات القرن الماضي، فى الطريق إلى مسجد الإيمان الذى يقع فى أول شارع استانوى فى منطقة كوينز، صوت أذان الظهر خارج المسجد، وهى المرة الأولى، اعتقد أنه خطأ من إمام المسجد، وكانت المفاجأة، فى السماح بالأذان فى الخارج، وهو جهد لفتاة مصرية تبلغ من العمر 32 سنة، اسمها رنا عبدالحميد، بحكم وجودها فى مجلس البلدية، نجحت فى الحصول على إذن برفع أصوات الأذان، من خلال مكبرات الصوت ما عدا الفجر، بعد أخذ موافقات كثيرة من الحي، ومجلس المدينة، وموافقة السياسيين المسئولين عن المنطقة، وتوفير الأوراق اللازمة والحصول على موافقة الجيران، وهو ما يحدث بالفعل فى مساجد الإيمان، ومسجد دار الدعوة ومسجد ابن الأكرمين، ومسجد المركز الإسلامي. تجاوز الصعوبات نماذج المسلمين والعرب الذين اتجهوا للعمل العام عديدة، لا تقتصر على ممدانى ومعه رنا عبداللطيف، ولكن تجسدت فى الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث ترشح 38 فى تسع ولايات، فازوا فى الانتخابات الأخيرة فى نوفمبر الماضي، بمناصب مختلفة، بين مجالس تشريعية، ومناصب، عمد وعضوية مجالس مدن، من بين 67 مرشحاً بنسبة نجاح 50 بالمائة، وهى مؤشر على مرحلة جديدة من وعي المسلمين والعرب فى أمريكا، بأن المشاركة السياسية لهم، لم تعد رد فعل مؤقت، بل تيار مُستدام ومدعوم بقاعدة انتخابية ناضجة وصلبة، فبدلاً من الانسحاب والتمحور حول الذات، لجأوا إلى الحل السحري، مضاعفة المشاركة وفقاً لمبدأ، (إذا لم تكن على الطاولة فأنت على القائمة)، وتحولت من كونها هامشية أو كبش فداء، إلى قوة مركزية، وصانعة قرار، ولاعب أساسى يملك سلطة تنفيذية فى قلب السياسة الأمريكية، وأنهم نجحوا فى تجاوز مرحلة ما بعد سبتمبر 2001، والتى تورط فيها بالتنفيذ عرب مسلمون، وأشرف على العملية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، التى كانت فارقة، يومها تحول كل عربى ومسلم حتى لو كان مولوداً فى أمريكا، إلي مشروع إرهابي، وكل مسلمة عربية تلبس الحجاب متطرفة، استغرق الأمر بعض الوقت، واحتاج إلى الكثير من الجهد، مروا بالعديد من المراحل، الاستهداف من الشرطة والمجتمع، باعتبارهم إرهابيين، وتحول الأمر إلى الاعتراف بأعيادهم الدينية، الى السعى ليكون لهم دور انتخابي، بعد جهد من بعض المنظمات والجمعيات العاملة فى أمريكا، والذين حاولوا إثبات أن الإسلام ليس عائقاً أمام الانخراط فى الحياة السياسية، ضرورة إنهاء العزلة والاندماج فى المجتمع الأمريكي، القائم على تنوع الثقافات والأديان. ونتوقف عند نموذج ولاية نيوريوك، كأحد أبرز ملامح التغيير حيث يصل عدد سكانها إلى 8 ملايين و400 ألف، منهم مليون و100 ألف مسلم، مما يمثل 12 بالمائة، من بينهم 22 بالمائة منهم من العرب، وقد سجلت الجالية الإسلامية فى نيويورك فى السنوات الأخيرة، مزيداً من النمو رافقها اهتمام من أبناء الجيل الثاني، بالمشاركة فى الأنشطة المجتمعية، واعتمدت فى ذلك على المساجد والتى تسهم بشكل فعال فى التعليم ونشر الثقافة الإسلامية، من خلال الدروس والفعاليات، وتقدم الكثير من البرامج للأطفال لتعليم اللغة العربية، قراءة وكتابة، وتعاليم الإسلام الأساسية، كما تمتد مساهمات المساجد لدعم المجتمع المحلي، مثل: توزيع الطعام، وتقديم المساعدات للمحتاجين. رائد أعمال ونعود من جديد إلى رنا عبدالحميد، النجم الصاعد فى سماء الحياة السياسية فى نيويورك، والتى تحولت خلال 18 عاماً ، من فتاة صغيرة تعرضت فى الرابعة عشرة إلى اعتداء جسدي، بسبب ارتدائها للحجاب، إلى أن أصبحت رائدة أعمال وناشطة وعضواً بمنظمة الديمقراطيين الاشتراكيين، وأحد الوجوه المشرفة لمصر والعرب والمسلمين، فقد بنت تجربتها فى العمل العام بنفسها، لديها قدرة على اكتشاف قدراتها، والتخطيط لمستقبلها، فالاعتداء الذى تعرضت له، لم يدفعها إلى الانفصال عن الواقع، أو الانغلاق على النفس، ولكنها من سعت إلى تأسيس جمعية بدأت من بدروم إحدي المؤسسات الخيرية، لتعليم الفتيات المسلمات طريقة الدفاع عن أنفسهن، ضد أى اعتداء بسبب الحجاب، ساعدها فى ذلك حصولها على الحزام الأسود، وتطورت الفكرة إلى تأسيس مؤسسة ضد العنف المُوجه للفتيات المسلمات، حيث نجحت فى تدريب أكثر من 20 ألف فتاة وسيدة، فى أكثر من 20 ولاية، وامتد نشاطها إلى دول أخرى فى إسبانيا والمكسيك ولندن والأردن، وانتهت بالفعل من كتاب عن توفير وسائل السلامة والدفاع عن النفس للسيدات، وهو جاهز للتوزيع شهر فبراير القادم، كما أسست أيضاً حملة (حجابى أوف نيويورك) لتعريف الأمريكيين به. أدركت رنا عبدالحميد أن أمريكا دولة تعطى الفرصة، لمن يجتهد لاستثمارها، فاجتهدت فى المجال الدراسى فاستكملت طريقها، حتى حصلت على ماجستير من جامعة هارفارد فى السياسة والاقتصاد، وتستعد للدكتوراة ، كما حصلت على العديد من المنح الدراسية، التى تُقدم للمتفوقين وذوى المهارات الخاصة، وكان من الطبيعى اختيارها من عشرة من رواد العمل العام فى إفريقيا، من إحدي المجلات المتخصصة فى هذا المجال، كما افتتحت رنا عبدالحميد (مركز ملكة) منذ ثلاثة أعوام فى منطقة أستوريا والذى تحول إلى البيت الثانى للمصريات مع توفير مكان للتعلم، واكتساب المهارات الخاصة، كما انحازت إلى دينها، فدأبت على إقامة احتفال خاص بقدوم رمضان، يتم خلاله، إغلاق أهم شارع تجارى فى كوين لإقامته، كما لو كنت فى مدينة عربية أو إسلامية، زينات وتوزيع مأكولات رمضان، الكنافة والقطايف، وتوزيع الفوانيس على الأسر والأطفال، وتشاركهن ديانات أخري. الانتخابات هى الحل عرفت رنا عبدالحميد، أن العمل السياسى يتم فى إطار مؤسسي، فسعت إلى عضوية الكونجرس الدائرة ال 13 عن الحزب الديمقراطى الاشتراكيين، ولكن تغيير خريطة الترشح دفعها للانسحاب قبل السباق الانتخابي، وقد أطلقت رنا رسمياً حملتها فى الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي، لخلافة زهران ممداني، فى فعالية أقيمت فى أستوريا حضرها عشرات المؤيدين وقادة ومنظمون ونشطاء من أحياء استوريا وكوينز، تحدثوا عن أسباب دعمهم لترشيحها، وهى تواجه منافسة شرسة من اثنين من المرشحات ديانا مورينو والتى تحظى بدعم من منظمة الديمقراطيين الاشتراكيين، وكذلك مرشحة أخرى مارى حبيبة، وتؤكد أنها بنت تحالفا داعما مشتركا، كما تعتمد على كتل انتخابية مهمة، لها وجود مؤثر فى الدائرة، سواء المصريون أو العرب وكذلك المسلمون، وتعتمد كما هو الحال مع ممدانى على برنامج خدمي، يتماس مع احتياجات الناخبين. الطريق أمام المسلمين والعرب لحجز مكان لهم على خريطة العمل العام والسياسي، شاق وصعب وملىء بالعقبات والفخاخ، ليس ممهداً بالزهور، ومن نماذج ذلك، ما حدث خلال اليومين الماضيين، من الاستثمار السياسى من قادة فى الكونجرس، من اليمين المتطرف من الجمهوريين، الذين حاولوا استثمار حادث إرهابي، قامت به (جماعة داعش) المُصنفة لدى كل دول العالم بأنها إرهابية، وأكثر ضحاياها من المسلمين، قامت بعمل مدان فى قارة أخري، أستراليا، على بعد آلاف الكيلووات، يمكن أن يقوم به مهووس أمريكى بدون حتى أسباب، والقائمة تطول أمام هجمات على مجمعات عامة أو مدارس، حيث طالبوا بحظر سفر المسلمين وعمليات ترحيل جذرية لهم، وسحب الجنسية منهم، وتحول الأمر إلى سجال بين النواب الجمهوريين والديمقراطيين، ونسى هؤلاء أن تدخل مسلم آخر بطل، تدخل مضحياً بحياته، لوقف مزيد من الضحايا. ويبدو أن الأمور ستتجاوز سريعا مثل ترهات نماذج التطرف اليمينى فى أمريكا، مع تمسك الجالية المسلمة والعربية بما تم تحقيقة، والأمل فى مرحلة جديدة لاحتلال العرب والمسلمين المكانة اللائقة بهم.