يحتاج استدعاء التاريخ روائيا أو فنيا إلى درجة عالية من النضج والوعى وإتقان الصنعة، ليست المسألة فى تحويل وقائع وأحداث فى كتب المؤرخين إلى نصوص سردية يتخللها الحوار، ولكن فى تلك الرؤية التى نعيد من خلالها تأمل الحاضر (وربما المستقبل) فى ضوء استدعاء الماضى، روائى اليوم لا ينافس المؤرخ، ولكنه يقرأ الإنسان من الداخل، وإذ يفعل ذلك بطريقة فنية خلاّقة، فإنه يقدم لنا ما هو أهم من الوقائع، إنه لا ينظر فحسب ولكنه يرى، ويالها من مهمة شاقَّة وعسيرة. ولكن محمد المنسى قنديل ينجح إلى حد كبير فى تحقيق ذلك، وهو يعيد استدعاء التاريخ فى روايته «كتيبة سوداء» الصادرة عن دار الشروق، فى الرواية طعم التاريخ، أماكنه، وشخوصه، وحروبه، ووقائعه، بل إن بناء الرواية مقسم وفقًا لوقائع اُختيرت منذ سنوات أربع من القرن التاسع عشر (هى أعوام 1863 و1865 و1866 و1867)، كأنها حوليات روائية أُعيد تركيبها وفقا لتصميم خاص. الموضوع أصلا عن حدث تاريخى ضبابى عجيب يثير الدهشة، إنه عن تلك الأورطة المصرية السودانية التى أرسلها الخديو سعيد إلى المكسيك، لتحارب إلى جانب القوات الفرنسية هناك، مجاملةً لصديقه نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا، الحالم بإمبراطورية فى العالم الجديد، لطالما أثارت هذه الأورطة فضول المؤرخ والروائى على حد سواء، بل إنها كانت على سبيل المثال موضوعا لرواية كتبتها سلوى بكر، عنوانها «كوكو سودان كباشى»، وهو اسم أحد أفراد تلك الأورطة، التى غابت فى مهمة عسكرية فى المكسيك لمدة ثلاث سنوات وأربعة أشهر، ثم عادت فى عصر إسماعيل، بعد أن فقدت نحو 140 من رجالها الذين دُفنوا فى المكسيك، بخلاف من ماتوا فى الرحلة البحرية الطويلة، أو مَن هربوا أو من أُسروا، أو أولئك الذين استقر بهم المقام فى المكسيك. هذا هو إطار الرواية وليس الرواية نفسها، لأن المنسى قنديل قرر أن يوسع دائرة الرؤية كثيرًا، وأن ينطلق من تأمل الوقائع والأرقام إلى تأمل النفوس والعصر والأحوال والمصائر، اعتبر بذكاء أن الإنسان هو المشكلة وهو الحل، من تلك الزاوية الواسعة الرحبة فإن «كتيبة سوداء» تستدعى حكاية الأورطة لترسم معالم مأزق إنسانى عابر للأزمان، بل إنها تختبر هذا المأزق فى القصور مثلما تختبره فى الغابات والأكواخ، الصراع من أعلى فى الرواية، يكاد يكون تنويعة أكثر أناقة لصراع الغابة، وجشع الإمبراطوريات المتحضرة التى يمثلها إمبراطور فرنسا، وملوك أوروبا، هو نفسه الجشع الذى يمثله سلطان قبيلة الدنكا فى بحر الغزال، الذى يتخلص من بعض رجاله، يبيعهم كالعبيد إلى النخّاس ود الزبير، ليحصل منه على بنادق، يستخدمها فى غزو القبائل الأخرى، والحصول على أرضها وأبقارها. المأساة فى «كتيبة سوداء» أعمق بكثير من تحويل فلاحين فى الغابة إلى جنود فى حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، المأساة فى أن الإنسان لا يتغير حتى لو ارتدى قشرة الحضارة، ما زالت تسكنه وتحكمه حياة الغابة، ما زال جشعًا وعنيفًا وعاشقًا للقوة، وما زالت تخدعه قوته، وما زالت أحلامه تنتهى إلى كوابيس، لأن المسافة هائلة بين الرغبة والقدرة. الغابة واللون الأسود مفتاحان للقراءة والتأمل، الغابة بلونها ورائحتها وطيورها ووحوشها حاضرة، سواء فى بحر الغزال أو فى المكسيك، بل إننا نبدأ من العالم البدائى بحكاية التاجر والسلطان والتمساح، ثم يختتم المنسى قنديل حكايته بغابة فى المكسيك، بعد أن تبدلت الأمور. وبعد أن تحرر الجندى الأسوانى على جوفان، ولكن الغابة تأخذ أيضًا دلالتها الرمزية، حيث يتحول ماكسمليان وزوجته الشابة شارلوت إلى بيادق فى لعبة يديرها نابليون الثالث، يرسلهما ليكونا أباطرة للمكسيك، يستغلهما فى معركة أطماعه من أجل الفضة والذهب، ويطمعان هما بدوريهما فى المنصب والجاه، ولكن نابليون الثالث يتراجع أمام جشع وطموح بسمارك فى أوروبا، يقرر الفرنسيون الانسحاب من المكسيك، ويتخلون عن ماكس وشارلوت والأورطة المصرية السودانية. بناء الرواية ليس فى حقيقته سوى ثمرة تقاطع الغابة الإفريقية بالغابة الأوروبية، ولذلك ينتقل السارد بين معاناة الأورطة ورجالها وحروبهم الصغيرة البائسة، ومعاناة ماكس وزوجته شارلوت، وحروبهما اليائسة لحكم بلد لا يعرفان عنه شيئا. اللون الأسود ليس هو أيضًا لون الجلود فحسب، ولكن هذا اللون داخل قلب البشر، هو الذى يذهب بهم إلى حتفهم (ماكس يتم إعدامه وشارلوت تصاب بالجنون). ما يجعل من «كتيبة سوداء» عملا فنيا رفيع المستوى ليس السرد التاريخى، وإنما هذا السرد الموازى الذى يستخرج المعنى من علاقات الشخصيات والأماكن، والذى ينقل المعركة الحقيقية إلى داخل البشر، رغم أن الرواية حافلة بالوصف لمعارك الدم والنار، الرواية ليست فى أحداثها المكانية والزمانية، رغم أنها تتحرك بين قارات ثلاث، ولكن فى ذلك القلق الذى يتسلل إلى القارئ على مصير الإنسان فى كل زمان ومكان، ذلك لأن اللون الأسود فى داخلنا، وذلك لأن الغابة ترافقنا مهما تحضّرنا. وراء هذا السرد التاريخى الخادع تراجيديا هائلة، وتساؤلات صعبة الإجابة، العاصى ابن قبيلة الدنكا أصبح جنديا مأمورًا، عليه فقط أن ينفّذ الأوامر مثل بقية زملائه، ولن يتحرر إلا فى النهاية، ولكن هل مكسميليان الذى اختار المغامرة بحكم المكسيك كان يمتلك مصيره بالفعل؟ إحدى أبرز أفكار الرواية أن اللاعب هو فى حقيقته دمية تمسك بها يد شخص آخر هو بدوره دمية تتلاعب بها يدٌ أقوى. منطق الأقوى القادم من الغابة هو الذى يحكمنا، وهو الذى سيدمر البشرية، لأنه يقودها إلى حروب عبثية. لا مهرب سوى أن يعود الإنسان إلى إنسانيته فى جوهرها البسيط، هنا فقط تنمحى الخطوط بين شارلوت سليلة ملوك أوروبا، والعاصى ابن الدنكا، بين محمد ألماس النوبى وإيزابيلا المكسيكية، وهنا فقط يمكن أن يُولد طفل أسود، ولكن فى غابة مكسيكية، ينتمى إلى عالم «على جوفان» الأسوانى وماريانا ابنة القرية الفقيرة، هنا فقط يخرج جيل لا يخاف، يعيد دمج الإنسانية وأغنياتها وأديانها، تمامًا كما كان يفعل مظلوم أفندى مترجم الأورطة، الذى لا يجيد الفرنسية، ولكنه يترجم عن أجمل ما فينا، يترجم عن الإنسان العابر للمكان وللحدود وللألوان وللأديان وللغات. خلف هذا العنف وتلك القسوة تكمن نظرة رومانتيكية، بل ومثالية، تشير إلى موطن الداء بلا مواربة، وتحلم بإنسان جديد، يحارب الجشع فى داخله، بدلا من أن يحارب الآخر، يصنع قدره وفقًا لقدراته، لا وفقًا لأوهامه، يأخذ من الفراشات ألوانها، ومن الطيور أغنياتها، ومن الغابة لونها الأخضر. «كتيبة سوداء» رواية كبيرة لأنها ليست مجرد حكاية عن حفنة من الجنود جعلهم التاريخ أرقاما على صفحاته، ولكنها رواية عن الإنسان، بانى الحضارة وهادمها، عن تلك الوحوش التى ما زالت تسكننا، مهما تغيرت ألوان جلودنا.