لا ينافس الكاتب والصحفى الكبير الراحل عبد الله إمام، فى الدفاع عن التجربة والفكرة الناصرية، سوى الكاتب والمؤرخ الكبير محمد عودة، وكان الرجلان صادقين إلى حدود قصوى فى كل ما يذهبان إليه من تحليلات وتأريخ وأفكار لدرجات مذهلة، وظلا يذودان عن التجربة فى سنوات الجمر الملتهبة، أى عقد السبعينيات الصعب، هذا العقد الذى انفتحت فيه نافورة الهجوم البشع واللا عادل والكاذب على عبد الناصر وتجربته ونظامه ورجاله، بل دخل كثيرون المعتقل تحت ما أطلق عليه «ثورة التصحيح»، وما أعجبه من تعبير. وانطلقت المدافع الثقيلة والخفيفة من كل حدب وصوب، لإفساد الواقع والتاريخ بكل كاذب ورخيص، وخرج المختبئون من كهوفهم، ليعلنوا مظالمهم المدعّاة، وحقوقهم المستلبة، وعاد كل خصوم وأعداء وكارهى جمال عبد الناصرإلى السطح، لترفرف كتاباتهم وقضاياهم فى فضاء الحقبة الجديدة. حتى الذين مدحوه، وكتبوا قصائد بالغة المديح فيه وفى عصره، مثل الشاعر صالح جودت، والمفكر فؤاد زكريا وموسى صبرى وجلال الدين الحمامصى رحمهم الله جميعا، للدرجة التى لا يستطيع الخيال نفسه أن يحققها، فموسى صبرى الذى ملأ الدنيا صياحا وصراخا حول فساد العهد الناصرى، وربما جمال عبد الناصر نفسه -كما زعم فى ثرثراته الكثيرة- كان قد كتب كتابا مجهولا تحت عنوان «ونحن نبنى الثورة الثانية»، وصدر الكتاب فى منتصف عام 1962، يشيد بالحياة السياسية والنظام الجديد بشكل مذهل. كذلك توفيق الحكيم الذى كتب كتابه «عودة الوعى»، هذا الرجل الذى قال فى عبد الناصر ما لم يقله أحد، واستفاد من عهده استفادات عظمى، وكان أكثر من كرّمه عبد الناصر ونظامه، ودافع عنه عبد الناصر شخصيا فى مواقف عديدة، واستثناه من لجان التطهير عام 1953، عندما كان الحكيم يعمل رئيسًا لدار الكتب. وكتب أيضا المفكر فؤاد زكريا سلسلة مقالات فى مجلة «روز اليوسف»، هاجمًا على عبد الناصر ونظامه، وكذلك على اليساريين الذين ساندوه، واتهمهم بالرشوة عندما زعم أن عبد الناصر اشتراهم وحبسهم بخمسة آلاف جنيه، عندما أصدر لهم مجلة «الطليعة» فى يناير 1965، وجدير بالذكر أن زكريا كان رئيسا لتحرير مجلة «الفكر المعاصر» فى زمن عبد الناصر، ولكنه لم يقل ذلك على الإطلاق فى أثناء حدوث الكوارث التى ذكرها فى ما بعد. على أى حال كان عبد الله إمام، ومحمد عودة، ينطلقان من قناعات راسخة لديهما، أن الناصرية ليست تجربة عابرة وفقط، بل إنها نظام حياة كامل، وفلسفة ثورية شاملة، وهى ليست فلسفة مغلقة على زمن معين، بل إنها قابلة للتطور والإصلاح والتعديل، إنها ليست عقيدة، بل إنها منهج صالح لحياة كريمة وعادلة وفاضلة، وهذا لن يتأتى إلا بتواصل الكفاح والتجديد والتقليب دوما فى إمكانيات جديدة، استرشادا بتلك المرحلة الثورية الكبيرة. ولم تكن تجربة عبد الله إمام قاصرة على التحليل السياسى فقط، بل إنه بدأ حياته ككاتب قصة، وكان ينشر قصصه فى مجلتى «الرقيب» و«قصتى»، وله فيهما عدد لا بأس به من القصص الجيدة، وذلك فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، ثم التحق فى ما بعد بمجلة «روز اليوسف»، وكتب فيها فى السياسة والاقتصاد والموضوعات الاجتماعية، وكان كل ما يكتبه لافتا للنظر، فهو أحد الذين يخدمون موضوعاتهم بشكل جيد. ففى 22 مايو عام 1961 كتب إمام تحقيقا جميلا عنوانه «مجلس أعلى لرعاية الشيوخ»، وكان الموضوع يشبه قصة قصيرة، كتبه عبد الله فى أسلوب قصصى عذب، واخترع شخصية اسمها «محمد أفندى شحاتة»، الذى خرج على المعاش، رغم أنه ما زال قادرا على العمل والإنتاج، ولكن الدولة استغنت عنه، وقذفته إلى المجهول، ليصبح طعاما للملل والشكوى، فلم يجد محمد أفندى سوى المقهى، ليبث شجونه إلى كل من يشبهه فى تلك الحالة. ويجرى عبد الله بضعة حوارات مع مسؤولين، وحالات، ليقترحوا ما أسماه فى العنوان «مجلس أعلى لرعاية الشيوخ»، وكان هذا الموضوع، وغيره من الموضوعات، بمثابة ملاحظات على شكل النظام الوظيفى فى عهد عبد الناصر، وهى ملاحظات من الداخل، أو من آل البيت كما يقولون، إنها ملاحظات العاطف والحادب على التجربة، وليست ملاحظات تأتى من معسكر الخصوم أو الأعداء. وبعيدا عن مجال الدفاع عن الناصرية والسياسة، له كتاب جميل عنوانه «صفحات من تاريخ المرأة المصرية»، وفيه يرصد عبد الله إمام دور المرأة من خلال المتابعة الجادة لدورها فى المجتمع، لأنها -كما يكتب- تعكس صورته وتعطى انطباعا للفترة التى يمر بها، كما رصد صفحات مضيئة من تاريخ المرأة المصرية فى الحضارة المصرية القديمة والعصور المسيحية والإسلامية والفاطمية والمماليك ومحمد على. وعندما اشتدت الحملة على كارثة 1967، كتب كتابا مشتركا مع محمد عودة عنوانه «النكسة.. مَن المسؤول»، وفى هذا الكتاب مواجهة صريحة وعاقلة للحدث، ومناقشة كل الأسئلة المطروحة، وهناك محاولات للوصول إلى إجابات من خلال مساحات الانتماء الناصرية. كذلك له كتاب عن جماعة الإخوان وثورة يوليو، ويكشف فيه حقائق، ربما تكون غائبة حتى الآن عن هؤلاء الذين يرطنون بمعرفة تاريخ هذين الطرفين «الثورة والإخوان»، وفى هذا الكتاب ينشر عبد الله وثائق دامغة لإدانة تلك الجماعة على مدى تاريخها، وتأكيد صفة «الإرهاب» التاريخية، دون تجنٍ أو مزايدة. ولا نستطيع أن نرصد كل كتابات عبد الله إمام فى هذه السطور القليلة، ولكننا نشير إلى أن كتبه التى أغنى بها المكتبة العربية، ليست دفاعا عابرا عن فترة تاريخية وفقط، بل إنها كتابات أعمق من ذلك، مدعومة بوثائق وأوراق فى كل القضايا التى أثيرت على مدى عشرين عاما أو أقل، أى عمر التجربة ذاتها.