فى صالون الحلاقة والتجميل النسائى كانت تجرى أحداث هذا الفيلم بكل صخبه فى التعبير بالصوت والصورة والأداء التمثيلى المبالَغ فيه، أنت تسمع فى الخارج أصوات ضربات المدافع والقنابل تعلو بينما فى الداخل النساء يبحثن عن قَصة شَعر مختلفة وجاذبة للرجل، وحكاياتهن لا تتجاوز أبدا تلك الدائرة، والفيلم حرص على تقديم بانوراما تتعدد فيها الشخصيات النسائية وتتباين حتى تُصبح الرؤية حاوية كل فلسطين وليست فقط فئة ما، ورغم ذلك فإنهن اجتمعن على شىء واحد وهو أنه لا صوت يعلو فوق صوت التجميل، وهكذا تتمثل هذه الرغبة فى إرادة جماعية تعبر عن رفضهن حتى مشاهدة التليفزيون لأنه سوف يقدم أحداثا سياسية ليس الآن وقت التعامل معها، ورغم ذلك فإن الفيلم يقع فى إطار توجه إيجابى لتقديم الإنسان الفلسطينى وهو يعيش الحياة، هذا هو بالضبط ما يمكن أن تلحظه فى فيلم «ديجارديه»، نوع شهير لتصفيف الشعر، الذى عُرض قبل يومين فى قسم «أسبوع النقاد» فى المهرجان للمخرجَين التوأم محمد وأحمد أبو ناصر. ما الذى تريده إسرائيل من الفلسطينيين؟ تستطيع أن تلمح طيف إجابة تتحرك أمامك للهدف الأسمى لإسرائيل، وهو أنها تسعى لكى تجبره على أن يعيش الموت وهو على قيد الحياة، وهو أقسى أنواع الموت، أن يخاصم الدنيا، ولهذا تشعره دائما بأن الحصار هو المصير وأن عليه طوال العمر التعايش مع الموت، وهكذا أدرك أكثر من سينمائى فلسطينى أن الحياة والحرص عليها هو ما يخيف إسرائيل، الحرص على الحياة يعنى تأكيد الهوية التى هى الهدف الأسمى لإسرائيل وهى تسعى لطمسها. أتذكر مثلا قبل نحو 15 عاما أيضا فى مهرجان «كان» أننا شاهدنا انطلاق المخرج هانى أبو أسعد الذى عُرض فيلمه «زواج رنا» فى قسم «أسبوع المخرجين»، كانت كل أحداثه تجرى فى يوم واحد فى أثناء الحصار وفى الانتفاضة، واختار المخرج بذكاء يوم عُرس رنا لتصل الرسالة أنه رغم القصف والضرب سنظل نقاوم ونعيش ونفرح ونضحك، وربما تلمّح بعدها بشكل أو بآخر إلى أن أبو أسعد فى أفلامه التالية «الجنة الآن» و«عمر» اللذين أوصلا السينما العربية إلى قائمة الترشيحات القصيرة للأوسكار -خمسة أفلام- تستطيع أن تقرأها من زاوية ما بأنها أيضا تناصر الحياة. تركيبة المناضل الفلسطينى بملامحها التقليدية ونقائها الرومانسى الذى لا يفكر إلا فى تحرير الأرض باتت تنتمى إلى زمن ماضٍ، قبل عامين مثلا تابعنا محمد عساف وهو يغنى للوطن والحب ويحصل على جائزة «آراب أيدول»، إذ كانت الفرحة فلسطينية بعد أن وحَّدتهم الجائزة، شاهدت مثلا فيلما تسجيليًّا عن سباق السيارات فى فلسطين ووجدت أن الرسالة واضحة، وهناك مسابقات تُقام لاختيار ملكة الجمال فى فلسطين أراها تنويعات على نفس التيمة، بالطبع تختلف معاناة الفلسطينى من مكان إلى آخر، مَن يعيش فى غزة مثلا مثل نساء فيلمنا العربى فى «كان» هذا العام «ديجار ديه» غير من يعيش فى رام الله، غير معاناة مَن يقيم فى تل أبيب وهم من نُطلق عليهم عرب فلسطين، ولكن ستجد إجابة تتكرر وهى أن الحياة والتمسك بها هو النضال الحقيقى. كانت «رنا» فى فيلم هانى أبو أسعد ترتدى فستان الزفاف الأبيض وعريسها يرتدى البدلة الاسموكن والببيون، ولم أشعر سوى بأن هذا هو النضال الذى يخيف العدو. المشاركات العربية السينمائية محدودة جدا فى المهرجانات العالمية الكبرى، ولكن ستجد أن أكثر بلد عربى لديه حضور هو فلسطين، فى شهر فبراير الماضى فى مهرجان برلين كان لنا مثلا الفيلم الفلسطينى «حب وسرقة وأشياء أخرى» للمخرج مياد إليان فى قسم البانوراما، هذه المرة فى «كان» لدينا فى أسبوع النقاد فيلم «ديجارديه»، والمقصود بالعنوان نوع من قص الشعر حيث تجرى الأحداث فى صالون للحلاقة وتجميل النساء. الفيلم الأول الذى عرض فى برلين كان يتناول قطاعا من الفلسطينيين يعيشون فى داخل الشريط الأخضر، إذ إننا كنا نتابع حكاية لص سيارات. ربما كان المشترك بين فيلمى «برلين» و«كان» أنهما يقعان فى إطار الكوميديا حتى لو جنح فيلم «ديجارديه» فى النهاية إلى الكوميديا السوداء. ولهذا مثلا يحرص الفيلم الكوميدى فى بنائه حتى لو تخللته مشاهد قتل على أن لا يصل إلى العنف وأن يَحول بينك وبين التعاطف مع المقتول لتظل بينك وبينه مسافة شعورية باردة، كما أن الدماء غالبا يتم تجنبها، السيناريو لم يضع أبدا أمامه شيئا من ذلك، إذ كانت الدماء بل والموت حاضرة بقوة ليس فقط للرجل الوحيد الذى نراه فى الفيلم وكان هو المفجّر للأحداث عندما سُرق أسد من حديقة الحيوانات فقررت «حماس» التصدى له بقوة السلاح، وتابعنا مناوشات عاطفية بينه وبين حبيبته التى تعمل فى محل الكوافير، ولكن شاهدنا أيضا مقتل الأسد بجواره وهو يودّع الحياة. السينما الفلسطينية هى صاحبة الحضور الأكبر فى أغلب المهرجانات، وهى بطبعها متعددة التوجهات والمشارب. نعم، كثيرا ما وجدت المخرج الفلسطينى سواء فى الشتات أو رام الله أو غزة وهو يشارك بفيلمه فى مهرجان عالمى مثل «كان» أو «فينسيا» أو «برلين» بينما تغيب أغلب الدول العربية، لأن سلاح تأكيد الهوية باتت السينما أحد معالمه. اختار المخرجان التوأم محمد وأحمد أبو ناصر القيد المكانى والزمانى داخل صالون الحلاقة، فأحداث الفيلم الواقعية زمنيا هى نفسها زمن الفيلم دراميا، شاهدنا مثلا فى الماضى لصلاح أبو سيف فيلمه «بين السما والأرض» وهو يحصر أبطاله داخل قيد الزمان والمكان فى مصعد توقَّف عن الحركة، وهو ما أقدمت عليه أيضا نادين لبكى بتنويعة ما فى فيلمها «سكر بنات» وتجد الروح الساخرة هى المسيطرة، بينما فى الفيلم الفلسطينى كانت هناك محاولة للضحك وللمواقف الساخرة، ولكنها لم تنجح فى تحقيق الهدف، حتى مشهد تعيين وزارة نسائية داخل صالون الحلاقة افتقر إلى الجاذبية وكان فقيرا فى سخريته، ولم يستطع المخرجان توجيه الممثلات، حتى المحترفة هيام عباس كانت فى أضعف حالاتها، ورغم ذلك فإن الهدف بات واضحا تماما أنها المقاومة بحب الحياة!! وبالطبع يظل أن حق المخرج أن يقدم تلك الحالة من الصراع بين الفلسطينى الفلسطينى، حيث أشعلت «حماس» النيران بحثًا عن الأسد، إلا أن السؤال: لماذا لم نرَ مشهدا واحدا ينتقد التعنت الإسرائيلى؟!