لاشك أن ديفيد بن جوريون كانت ستتملكه خيبة الأمل والرجاء لو كان قد عاش وشاهد الأفلام الفلسطينية الثلاث التى عرضتها بانوراما السينما الأوروبية فى دورتها السابعة هذا العام ، لأنه كان سيتأكد أن مقولته الشهيرة "الكبار سيموتون والصغار سينسون" ليست أكثر من أضغاث أحلام، لأن الصغار لم ينسوا فأولئك الذين اغتصبت أرضهم وعاشوا فى بلاد الغرب مازالوا يكافحون من أجل وطنهم، بل وتلف أعمالهم السينمائية العالم ، فلغات البلاد الأجنبية التى عاشوا فيها لم تنسيهم لغتهم الأم ، بل إستخدموها ليسمعوا العالم صوتهم ويشهدوه على جرائم إسرائيل. ولم تجسد الأفلام الثلاثة فقط جذور الإنتماء الفلسطينى الضارب فى أرواح صانعوها فحسب ولكنها تجسد أيضا حلمهم بشكل الوطن لحظة الرجوع فهو وطن راق تجد فى شوارعه دور السينما وتعزف فى أرجائه الموسيقى . أول هذه الأفلام هو فيلم " عالم ليس لنا " a world not ours"" وهو الفيلم الذى حصل على العديد من الجوائز فى الكثير من المهرجانات العالمية من بينها جائزة السلام من مهرجان برلين السينمائى الدولى هذا العام ،وجائزة أحسن فيلم من مهرجان أدنبره السينمائى الدولى أيضا هذا العام وغيرها من الجوائز. مخرج الفيلم هو مهدى فليفل الفلسطينى الذى يعيش فى الدنمارك منذ صغره لكنه لم ينسى لحظة وطنه فلسطين ولم يكف عن زيارة مخيم "عين الحلوة " الذى يعيش فيه أقربائه من الاجئين الفلسطينين. ويعرض المخرج حياة الفلسطينيين الذين يعيشون فى المخيم فى إنتظار يوم عودتهم لأرضهم ويعرض معاناتهم ويتعمق فى فى نفسية العديد من الأشخاص كل على حده كبارا وصغار فى رحلة أشبه بمتاهة من الحكايات الإنسانية المؤثرة التى تلمس أوتار قلب المشاهد حتى تشعر أنك مهموم بكل شخص منهم كأنه أحد أفراد أسرتك أنت وليس مخرج الفيلم ، ساهم فى ذلك قدرة المخرج على رصد أدق التفاصيل للشخصيات التى يعرض الفيلم قصصها فأضفت حالة من المشاركة بينها وبين المشاهد سواء فى لحظات المرح مثلما يلهو الجد مع أحفاده.. أو الحزن حينما يجلس أحدهم بمفرده فاقدا الأمل شاعرا بالظلم . ثانى الأفلام التى عرضتها البانوراما هو "جيرافادا" والذى حظى بأول عرض عالمى له بمهرجان تورنتو السينمائى الدولى هذا العام ومخرجه هو رانى مصالحة الفلسطينى المولود فى فرنسا . تدور أحداث الفيلم حول طفل فلسطينى ماتت أمه لحظة ولادته يعيش هو ووالده الذى يعمل طبيبا بيطريا لحديقة حيوان فى فلسطين ، والطفل مرتبط إرتباطا وثيقا بزرافتين ويضع لهما الطعام والشراب ، وفى أثناء إحدى الغارات الإسرائيلية يموت الزرافة الذكر وتكتئب الأثنى وترفض تناول الطعام مما يسبب حالة من الإكتئاب الشديد للطفل الفلسطينى الذى يرعاها فيرفض هو الآخر تناول الطعام ، وتبدأ رحلة الأب الطبيب البيطرى فى إيجاد علاج لحالة إكتئاب الزرافة والطفل ، تساعده فى ذلك صحفية فرنسية تغطى الأحداث فى فلسطين ، وبعد فشل كل محاولات الأب لعلاج الزرافة يجد أن الحل الوحيد هو أن يحضر لها زرافة ذكرا جديدا بدل الذى مات ، أثناء الغارة الإسرائيلية ..وتنجح محاولته فى إحضاره من تل أبيب وتبدأ الزرافة فى الأكل مجددا ولكن تعتقل السلطات الإسرائيلية الأب بدون أن يعرف له أحد مكان. ويعرض الفيلم لصور توحش الجيش الإسرائيلى فى تعامله مع الفلسطينين بل وحتى عجرفته فى التعامل مع الأجانب كما يلقى الضوء على الكوارث الإنسانية التى سببها الإسرائيليون للفلسطينيين بما فى ذلك ماسببه الجدار العازل من آثار نفسية وإجتماعية وإقتصادية ، كما قدم الفيلم بطريقة غير مباشرة صورا مختلفة لمعاناة الفلسطينيين اليومية حتى أنهم باتوا يستخدمون الزيتون بدل العملة فى تبادلاتهم التجارية... وفى النهاية الفيلم المستوحى من قصة حقيقية أثبت أن الفلسطينيين مهما كانت معاناتهم سينتصرون للرحمة حتى لو كانت من أجل مخلوق برى هو زرافة كل هذا فى همسات للضمير والعقل والروح مجدولة جيدا بقصة الطفل والزرافة .. ثالث الأفلام هو " غزة 36 مم" وهو من إخراج خليل المزين ، وهو الفيلم الذى يجسد الحلم بفلسطين الوطن الذى تمتلئ شوارعه بقاعات السينما وتعزف في جنباته الموسيقى . والفيلم يوثق جرائم تجار الدين الإسلامى والذين أحرقوا دور السينما ووجهوا سهامهم تجاه الوطن بدلا من العدو والذين افادوا بفكرهم المعادى للحياة العدو الصهيونى وقدموا له أكبر الخدمات من خلال الطعنات المتوالية التى وجههوها للثقافة الفلسطينية وإنكار شتى صورها بما فى ذلك دور السينما .. كما يعرض الفيلم صور الحرائق التى أشعلها المنتمون لذلك التيار فى دور السينما حتى خربوها جميعا ويعرض ما ألم بأصحاب تلك الدور من فقر ومعاناة ، ويعتبر الفيلم صرخة إعتراض قوية على ماحل بدور السينما فى فلسطين كما يعكس الحلم بعودة دور العرض بأفلامها وموسيقاها من جديد.