الخميس 28 نوفمبر شاهدت فيلمين يستحقان الاهتمام فعلا ولأكثر من سبب موضوعي وفني. العملان عرضا في إطار برنامج "بانوراما الفيلم الأوروبي" 27 نوفمبر- 7 ديسمبر في أمسية واحدة وهما "العالم" للمخرج الهولندي الكس بيتسترا والثاني بعنوان "جيرافادا" ومعناه "الزرافة" للمخرج راني مصالحا. المخرجان ينتميان إلي أصول عربية الأول من أب تونسي وأم هولندية. وهو ثمرة زواج فاشل لاستحالة استمرار الحياة بين الأبوين والثاني ولد في فرنسا من أب فلسطيني وأم مصرية ودرس في مدرسة بوسطن ومعهد باريس للدراسات السياسية. المخرجان في ربيع الشباب "العشرينيات" والفيلم يمثل أول تجاربه الروائية الطويلة.. أي أننا بصدد تجربة أولي.. وللتجارب الأولي مؤشرات تدل علي الاهتمامات الشاغلة لصانع الفيلم ولمستوي أسلوبه وتوجهاته الفكرية الملحة عندما فكر في إخراج أول أعماله. والعملان يدوران في محيط عربي.. بالأحري مدن عربية العمل الأول تجري أحداثه في تونس والثاني "الزرافة" في مدينة قليقلة في فلسطينالمحتلة. والعملان يختاران سياقا اجتماعيا وسياسيا مشحونا بالأحداث والاحتمالات الآتية وينبيء بالانفجارات رغم النعومة السطحية للأحداث. الفيلم الهولندي "العالم" بطله شاب اسمه "عبدالله" في العشرة الثانية من عمره.. يعيش في تونس ما بعد الثورة والتخلص من الديكتاتور "بن علي" وينتهي بعد انتخابات ديمقراطية ينتج عنها نجاح حزب "النهضة" أي أن الديمقراطية التي أطلقها من عقالها ما يسمي بالربيع العربي وصلت بالشعب التونسي إلي حكم فاشي استبدادي ديني!! يأتي هذا المعني ضمنيا ويشكل حسب قراءتي رؤية تنطوي داخل العمل. الفيلم الثاني "الزرافة" بطله الرئيسي طفل في العاشرة واسمه "زياد" فقد أمه ويعيش وحيدا مع والده الطبيب البيطري وتربطه علاقة حميمة جدا مع "الزرافة" الوحيدة في حديقة حيوان البلدة.. و"الزرافة" بعد وفاة وليفها الذكر الذي رحل مخلفا جنينا في بطنها تصاب بالاكتئاب وترفض الطعام وباتت مهددة بالموت ومن فرط تعلق الابن بالزرافة يضطر الأب "حسن" أن يغامر بحياته من أجل استجلاب وليف للزرافة من الضفة مع ما يحدق بالمغامرة من أخطار. السياسة في العملين تشكل خلفية ولا يتم تناولها بشكل مباشر وإنما تنعكس ظلالها بقوة علي الحياة اليومية للسكان وتؤثر علي الأفراد وبالذات شريحة الشباب. التباين الاجتماعي في مستويات المعيشة يتجلي من خلال تفاصيل مرئية صغيرة وقد تبدو عابرة ولكنها في واقع الأمر محملة بالدلالات الاجتماعية والاقتصادية. الملاحظة التي شدتني شخصيا أن المخرجين اللذين تلقيا تعليمهما في الغرب وعاشا حياتهما بالكامل في إطار مجتمع أوروبي غربي هذان المخرجان كما يتضح من عملهما الأول متأثران بشدة بالثقافة العربية التي تمتد جذورها بوعي أو من دون وعي إلي تكوين الاثنين العقلي والفكري وعلي نحو عضوي وبالذات المخرج الثاني راني مصلاحا صاحب تجربة الزراقة.. العملان يعتمدان علي طاقم تمثيل عرب ومن أصول عربية تونسية ومغربية والمستوي التمثيلي جيد جدا حتي مع غير المحترفين. العملان يشكلان من وجهة نظري المتواضعة نموذجا خلاقا للامتزاج الثقافي والفني بين الفكر والصناعة أو بالأحري بين الجذور الثقافية وبين التكنولوجيا في صناعة الفيلم والملاحظ أنه برغم البساطة الظاهرة والأسلوب السردي السلس هناك لغة تعبيرية عميقة وتكثيف للمعاني والتعبيرات البصرية يصل إلي مستوي الشعر وعلي نحو نلحظه بإحساس أكبر في فيلم "الزرافة". العملان كأعمال أولي قوية الأثر موضوعيا وفنيا وغنية بعوامل التشويق غير التقليدي وبالإثارة الموجهة للمشاعر الرقيقة الإنسانية.. ومع تركيز خاص علي أشكال الصراع المجتمعي الخفي والظاهر. في فيلم "الزرافة" الذي يشارك في إنتاجه كل من فرنسا وألمانيا وإيطالياوفلسطين مذاقه عربي خالص يغلف روح الفيلم وتناول ناعم وهاديء النبرة وبعيد عن المباشرة أو الزعيق أو التوجه المباشر لإشكالية الصراع العربي-الإسرائيلي أو بالأحري الفلسطيني- الإسرائيلي وهناك إدانة مطوية قوية الدلالة للفارق الرهيب بين حساسية العربي المظلوم في الأرض المحتلة ورقة مشاعره في العلاقة البديعة بين الإنسان والحيوان وبين ضراوة المحتل الإسرائيلي أثناء ممارسة واجبه وعمله اليومي في نقاط التفتيش العديدة التي يمر عليها الفلسطيني رغما عنه. الفيلم "الزرافة" يطرح أيضا وبقوة غير منطوقة وإنما نراها ونلمسها من خلال رسم الشخصيات الفوارق الاقتصادية والطبقية بين شرائح في المجتمع الفلسطيني نفسه. تظهر في شخصية مدير حديقة الحيوان الفلسطيني البدين الذي يدخن السيجار ويحتفل بعيد ميلاده ويوظف من يقعون تحت إمرته لتنظيم الاحتفال وبين "حسن" الطبيب البيطري المشرف علي الحديقة الذي لا يجد للحيوانات القليلة جدا الدواء اللازم.. والفارق أيضا واضح بين حديقة الحيوان في المدينةالفلسطينية وحديقة حيوان إسرائيل في المدينة العربية المحتلة. في فيلم "العالم" أو Diewelt الهولندي يعمل عبدالله في محل لأقراص الDVD ويحلم مثل كثيرين جدا من شباب دول شمال أفريقيا بالهجرة إلي دول أوروبا وتحديدا إيطاليا ولكنه الحلم- السراب الذي يتلاشي في الأغلب سريعا.. ومثل أبناء هذه المنطقة من العالم يعانون البطالة ويرتبط رغم ذلك برباط وثيق راضيا أو من دون رضاء بالأسرة وبالتقاليد.. والمخرج الهولندي يري والده التونسي بعد أن صار عمره 25 سنة ثم يعود إلي تونس ويتأمل جذوره من خلال أعضاء أسرته الذي يصورهم في فيلمه الأول يصور والده نفسه الذي يلعب دوره في الفيلم وسط أسرته التونسية وهو يحرص هناك علي تصوير تفاصيل الحياة الطعام واحتفالات العرس ورسم نوع العلاقات الأسرية والشخصية إلخ.. كل ذلك أمام خلفية سياسية تؤكد العلاقة التفاعلية بين السياسة والحياة اليومية للمواطن الذي صار واعيا أكثر بالواقع من حوله. الموضوعات التي تدور الأحداث حولها في العملين تجمع السياسي والاجتماعي والثقافي في بئيتين عربيتين وفي سياقين سرديين جذابين محملين بظروف خاصة جدا وأثناء مراحل من الصراع الاجتماعي المتأجج تحديدا ما يسمي بالربيع العربي والثورات ضد الاستبداد والديكتاتورية وما أعتدنا علي تسميته بالصراع العربي-الفلسطيني الذي انحسر تماما بعد كامب دافيد وبعد التخاذل العربي إلي صراع إسرائيلي-فلسطيني فقط. العملان خلطا الخاص والعام في ضفيرة مترابطة ومليئة بالدلالات الذكية في فيلم "الزرافة" تقف الزرافة بتكوينها الذي يجعل منها أطول الحيوانات الباقية فوق الكوكب.. شاهدا يطل علي الأشياء من زاوية مرتفعة. وتكوينا حيا وديعا جدا ولكنه يدل علي الكبرياء والثقة. ليست الأقوي كالأسد وإنما الأكثر ثباتا.. إنه استخدام رمزي تم توظيفه جيدا. المخرج ذو الأصل الفلسطيني الذي يدخل في تكوينه الفكري ثقافات مختلفة يتناول قضية الدين في فيلمه الأول برهافة آسرة. ويمر عليها من خلال اشتباكات الأطفال الصغار وحوارهم. والطفل "زياد" بطل الفيلم أو أحد أبطاله تربطه علاقة جميلة وبريئة وصافية فعلا مع الله جل شأنه وهي العلاقة التي يناهضها أقرانه حين يعايرون الطفل بأن والده لا يذهب إلي الجامع ومن ثم مصيره الجحيم. القضايا الكبيرة يمكن أن تعالجها السينما بأساليب رقيقة وفي قوالب تحقق المتعة وتثري الوعي. وهذا ما تمكن المخرجان من تقديمه. وقد لا يصلح تباين العادات والثقافات في تحقيق الاقتراح والتآلف في علاقة الزواج مثلما حدث في والدة ووالد المخرج الكس بيتسترا ولكن امتزاج الثقافات والتفاعل الإيجابي بينها يمكن أن يتحقق من خلال الفن مثلما نري في فيلم "العالم" جميع الأجناس البشرية اختلطت فيها جينات مختلفة وشكلت بنيتها العقلية ثقافات متباينة ولكن عبقرية الفنان قادرة علي صياغة نسيج سينمائي يتضمن خيوط تتجاور وتتقاطع وتتوازي وفي النهاية يمكنها أن تتجاوز الاختلاف وصنع "عالم" يسوده الانسجام والجمال.. رأينا أيضا هذا الامتزاج والتفاعل في علاقة الزائرة الفرنسية مع الطبيب الفلسطيني وابنه زياد. التجربتان "الزرافة" و"العالم" عينة دالة تؤكد أن العمل الأول مثل الابن البكري في مسيرة الفنان. يحمل الجينات الوراثية التي سوف تعلن عن نفسها بصورة انضج -ربما- في باقي السلالة.