عندما تتوالى الأحداث ويتسارع نبضها فى الشارع المصرى فى فترة ما بعد الثورات فكثيرا ما تتعالى الأصوات التى تتساءل عما حدث للمصريين وهل تغيرنا أم تغيرت الطباع والظروف، ولعل المتأمل فى تاريخ مصر الطويل يجد أن ذلك ليس علينا بغريب، إذ تتمخض الثورات فى مصر عن عدد من المميزات والعيوب التى تتشابه فى ما بينها وإن تغير الزمان. ويسجل لنا التاريخ المصرى القديم نموذجا لأقدم ثورة اجتماعية فى التاريخ والتى تتشابه أحداثها مع ما نحياه الآن، فلقد عاشت مصر فى نهاية الأسرة السادسة حالة من التفكك والاضطراب قرابة قرن من الزمان نتيجة لضعف الملوك وتزايد نفوذ حكام أقاليمها مع تمسكهم بتوريث المناصب لأبنائهم وتفاقم الأزمات الاقتصادية، بل وداهمها الخطر كذلك من حدودها الشمالية الشرقية فتجرأ بعض بدو سيناء وفلسطين على هيبة الدولة وعلى تجارتها مع بلاد الشام. ولقد صور لنا الحكيم «إيبو ور» الذى يبدو أنه عاصر أواخر عهد الملك بيبى الثانى أحداث هذه الثورة فيقول إنها بدأت بالعاصمة وصاحبها نوع من العنف والرغبة فى الانتقام من ذوى الحظوة أو الثراء واستغلها الغوغاء، فسادت حالة من عدم استتباب الأمن واُقتحمت الدواوين ومُزقت الوثائق الرسمية، وهجر الناس البلاد وتوقفت الطقوس الدينية فى المعابد، ولم تقتصر النقمة على الأحياء من الأغنياء، بل امتدت إلى موتاهم فنهبت مقابرهم وهباتها. ولقد ترتب على هذه الثورة بعض النتائج الطيبة، فقد استثارت الوعى القومى لدى المفكرين ودفعتهم إلى تخيل صورة واضحة للحاكم الصالح، وكذلك أرست طبقة من المجتمع تمجد العصامية دون الحسب أو النسب، إلا أنه قد بدأت تطفو على السطح عدة ظواهر سلبية كالإلحاد وإنكار وجود الإله مثلما نستشعرها هذه الأيام، وهو ما عبر عنها إيبو ور بقوله: «يقول المنفعل لو علمت أين الرب لعملت له». ثم استمرت هذه الموجة وخلف أصحابها مواويل سائرة كانوا يدعون فيها إلى التمتع بالدنيا دون القلق على الآخرة، فمثلا ردد أحد الرواة على أنغام «الهارب» كلمات يمكن صياغتها بالعامية على النحو التالى: «أجساد تروح وأجساد جاية من زمن الأوائل، ياما سمعنا كتير من كلام الحكما وفين ديارهم؟ راحوا وما عاد منهم حد، افرح وخلى قلبك ينسى، ما حد راح وأخد معاه حاجة وما حد راح وعاد تانى». وكذلك انتشرت ظاهرة العودة إلى القديم وتمجيده فى كل شىء حتى لو كان رديئا، خصوصا فى الفنون، إذ ظهرت منها نماذج رديئة فى الشكل والمضمون وتعد نوعا من الفراغ الذهنى وعدم القدرة على الابتكار بما يماثل الإفلاس الفكرى والفنى الذى نعانى منه كثيرا هذه الأيام، كذلك تزايد العنف المجتمعى الذى صاحبه شعور الفرد بأن من حقه أن ينتقد غيره أو يغتصب ما ليس له حق، فيحدثنا الحكيم «نسو» عن فساد الناس فيقول: «لمن أتكلم اليوم والقلوب تميل إلى اللصوصية وكل إنسان يغتصب متاع جاره؟». ولكن ما إن وقف الشعب بعضه بجانب بعض واجتهد فى السعى لدرء الأخطار داخليا وخارجيا حتى دخلت مصر فى عصر النهضة وعادت إليها قوتها ليسعى المصريون بروح تعمل على البناء والإنتاج من جديد.