ظرف طارئ اضطرنى إلى السفر إلى الإسكندرية بسيارتى فى وقت متأخر ليلا، استعنت بالصبر «والسلوان» على الشعور بالضيق والإرهاق وحالة عامة من عدم الرغبة فى النزول إلى الشوارع الغارقة فى المورستان، الطريق طويل والقمر غائب والظلام حالك والشبورة كثيفة وأنا جالس خلف المقود أكلم نفسى وأتحدث مع مساحات الزجاج بصوت مرتفع متحدثًا مع أشخاص غير موجودين، منهم من لا يزال فى الدنيا ومنهم من غادرها. أستمع إلى عبد الحليم وهو يغنى «عاشق ليالى الصبر مداح القمر» (علما بأننى لم أعد عاشقًا لليالى الصبر بالمرة، اللى هوا ألف شكر كفاية والنعمة!!)، أتفرج على شاشة السينما الوهمية التى يعرضها زجاج سيارتى الأمامى، وجوه وأحداث وسنوات عمر وسيارات نقل ونصف نقل ومطبات طبيعية وصناعية. ساعات مرت لم أجد خلالها سيارة شرطة أو مرور أو دورية على طول المئتى كيلومتر ولا أى شىء لأصل أخيرًا مرهقًا مكدودًا فى الثالثة والنصف صباحًا لأجد لجنة الترحيب التابعة لوزارة الداخلية الحبيبة تنتظرنى على رأس مدخل الإسكندرية المضىء. الباشا يأمرنى بالتوقف بإشارة من يده، توقفت ليقول الرجل فى إيجاز بليغ تلك الكلمة المشهورة جدا «رخصك!». كان يرتدى ملابس مدنية، قميصا مشجرًا وبنطلونا أزرق لم أعرف بالتحديد هل هو ضابط أم أنه ينتمى إلى دولة أمناء الشرطة. فى صمت أخرجت الرخصتين وناولتهما له لأفاجأ به يسألنى «إنت مش عارف إن هنا كمين؟!»، رددت مستعجبًا «لا والله يا افندم، هو المفروض إنى أعرف.. خير؟» ليجيئنى الرد الغريب، «داخل ع الكمين بسرعة ليه؟!» اتسعت عيناى ذهولا وأنا أنظر إليه بغير فهم «بسرعة إيه يا افندم؟ أنا ماشى بالسرعة القانونية»، رد قائلا «لأ إنت كنت داخل ع الكمين بسرعة»، فهمت أن عقله المسطح لم يكن يحاسبنى على عدم احترام القانون، ولكن على عدم احترام الكمين! وكأنى يجب أن أطرق الباب لأستأذن بما هو متوقع من أدب خصوصًا أنها لجنة شرطة وليست «مرور» من ذلك الذى لا أثر له أصلاً رددت بكل هدوء «لا يا افندم أنا ماكنتش ماشى بسرعة وبعدين هوا كان فى رادار مسكنى؟ ولما حضرتك شاورت لى أنا وقفت، طلبت الرخص أهى سليمة فى إيدك أهيه! مع حضرتك مستند ولا رادار يقول إنى كنت ماشى بسرعة؟» وهكذا وقعت فى المحظور، ناقشته. اعترضت على كلام سيادته، لم أعتذر أو أتوسل أو أعلن انسحاقى أمام معاليه، وعلى طريقة فيلم صلاح الدين الأيوبى بتاع أحمد مظهر «وهكذا.. سقطت لويز!!» خاطبنى قائلا «اركن على جنب!» طلبه طبعًا كان مدفوعًا باعتبارات التنكيل والعقاب وليس لاعتبارات الاشتباه ولا الإرهاب خالص!! «مش راكن!!» هكذا رددت، ثم أردفت كلمتى بالإعلان عن وظيفتى ذات السلطة، أنا المستشار... إلخ إلخ. طلب الكارنيه فأعطيته له وتغير الحال تمامًا. أصبحت باشا أنا أيضًا، «سماح!»، قلت له مطمئنًا طبعًا «أنا أصبحت فى الأمان من البطش كله، ومع ذلك حضرتك عايز تفتش العربية أنا تحت أمرك!» طبعًا لم يفتشها ولم أركن على جنب وبكل أدب سمح لى بالمرور قائلا «اتفضل يا باشا!»، اتفضلت فورًا وأنا أحمد الله على أننى لست مواطنًا عاديا وإلا لكان زمانى نايم فى الحجز! سألت نفسى وماذا كنت سأفعل ساعتها، ليس لى علاقات ولا صداقات ولا وسايط! قلت لنفسى إن المواطن المصرى العادى إذا شاء أن ينزل ليقود سيارته فهو على كف عفريت ويجب أن يعلم أنه يمكن أن لا يعود إلى بيته فى يومه الأغبر لو وقع تحت رحمة ومزاج هؤلاء الباشوات وتصادف إن مزاج كان سيادته مش رايق ولا حماته منكدة عليه راح الجدع فى داهية. ولا حماية قانونية ولا ضمانات ولا قواعد مفهومة ولا دياولو، فقط كالعادة، سلطة مطلقة تقابلها مفسدة مطلقة. مش حكاية إرهاب بالمرة، أما لو تصادف إن ضابط الشرطة وقع فى المحظور فسوف يستفيد فورًا من حظر النشر بتاع النيابة الذى لا يمكن أن يستفيد منه من هو مثل المستشار زكريا عبد العزيز المتهم بالاعتداء على مباحث أمن الدولة! تذكرت شريف صديق عمرى وزميل دراستى الذى كان يمر على ذات لجنة ترحيب الإسكندرية مصطحبًا فى سيارته وفدًا أجنبيا قادمًا من مطار برج العرب لحضور مؤتمر مهم فى أحد فنادق الإسكندرية، ولأن شريف المسكين ليس فى منصب أو سلطة فقد أوقفه الباشوات وسألوه فى إيجاز بليغ «مين دول!» ثم أخرجوهم جميعًا من السيارة، توسل إليهم الرجل ناسيًا نفسه أن يأخذ أحد أفراد اللجنة سيارته لتوصيل الضيوف إلى الفندق وليفعلوا به هو ما يشاؤون، لكنهم ألقوا بهم فى ميكروباص شعبى وحجزوه هو ليلتين.. آخر بهدلة. الليلة الثانية كان سببها أن أمين الشرطة نسى تسليم بطاقة شريف وأوراقه للضابط وأخذها معه البيت فاتهم الضابط شريف بأنه يسير بغير أوراق! وبعد ليلتين اتفضل روّح وكأن شيئًا لم يكن!! آه نسيت، الوفد الأجنبى حلف ما هو جاى مصر تانى!