تعد المواقع التراثية والثقافية على الشريط الساحلى للبحر الأحمر مَعلمًا مهمًّا على الخريطة السياحية لمصر، ونواصل اليوم حديثنا عن أحد هذه المعالم المهمة ألا وهو دير الأنبا بولا أول الآباء السواح فى تاريخ الكنيسة، والآباء السواح هم الآباء الذين جالوا فى الصحراء دون أن يكون لهم موضع ثابت يقيمون فيه، وتروى النصوص القبطية أن الأنبا بولا قد وُلد فى طيبة عام 228م فى عهد الإمبراطور ديكيوس. وكان أبوه قد ترك له ولأخيه الأكبر بطرس ثروة كبيرة فأراد بطرس أن يستولى عليها مما دفع بولا إلى أن يتوجه إلى القضاء، ولكنه رأى فى الطريق جنازة لأحد أغنياء المدينة فحدَّثته نفسه إن كان هذا الغنىّ قد أخذ معه من أمور الدنيا شيئا، ولذا فعوضًا عن انطلاقه إلى القضاء فقد ترك المدينة وأقام فى قبر مهجور ثلاثة أيام حتى ظهر له ملاك يرشده إلى البرية الشرقية فانطلق إليها، حيث أقام فى كهف بجبل نمرة القريب من البحر الأحمر ما يزيد على 80 سنة لم يطالع فيها إنسانًا، وكان الرب خلالها يرسل إليه غرابًا بنصف رغيف كل يوم، وكان يقتات من ثمار النخيل ويحيك ثيابه من ليفها وسعفها ويرتوى من عين للماء هناك. وترتبط سيرة الأنبا بولا فى التراث المسيحى بالأنبا أنطونيوس أبو الرهبان ومؤسس الرهبنة فى التقاليد المسيحية الشرقية والغربية، حيث تشير النصوص إلى أن أنطونيوس قد اعتقد أنه أول من سكن البرية من الرهبان، فأرشده الملاك بأن فى البرية إنسانًا لا يستحق هذا العالم وطأة قدميه لزهده وتواضعه، فانطلق أنطونيوس فى الصحراء حتى وصل إلى كهف بولا حيث التقيا معًا وصارا يتحدثان ثم جاء الغراب يحمل رغيفًا كاملًا فقال بولا: «الآن علمت أنك رجل الرب، حيث لى أكثر من 80 عامًا يأتينى الغراب بنصف خبزة، أما الآن فقد أتى بخبزة كاملة، وهكذا فقد أرسل الرب لك طعامك أيضا»، وفى نهاية الحديث طلب بولا من أنطونيوس أن يحضر الحلة الكهنوتية التى أهداها إليه البطريرك إثناسيوس، البابا العشرون من بابوات مدينة الإسكندرية، لأن وقت أجله قد أزف، وعندما أحضر أنطونيوس الحلة لبولا وجده جاثيًا على ركبتيه داخل الكهف وقد توفِّى، بينما كان أنطونيوس يفكر كيف يدفنه فإذا بأسدين قد جاءا نحوه حيث قاما بحفر حفرة ثم مضيا، فدفنه أنطونيوس ثم حمل ثوبه الليفى وقدمه إلى الأنبا إثناسيوس الذى فرح به جدا وتحّول الموضع الذى عاش فيه القديس إلى دير كبير. ولقد ألهم اللقاء بين بولا وأنطونيوس العديد من الكتاب والفنانين فى أنحاء العالم ليكون موضوعا رئيسيا فى فنونهم التى تزخر بها متاحف العالم وآدابهم التى تزدان بها المكتبات. ويقع دير الأنبا بولا، أو دير النمور، بالقرب من جبل الجلالة القبلية ودير الأنبا أنطونيوس، ويعود أقدم جزء فى الدير حاليًّا إلى القرن الخامس الميلادى ويحتوى على عديد من النقوش الجدارية الرائعة، ولأن هذا الدير يشكل علامة فارقة فى تاريخ الرهبنة المسيحية لما يمثله من قيمة روحية كبيرة للمسيحيين فى العالم أجمع، فلذلك يجب إلقاء مزيد من الضوء على مثل هذه المواقع السياحية والتراثية وإدراجها فى برامج متميزة تليق بها وبتاريخ مصرنا الحبيبة.