طرحت علينا الثورة أسئلة عديدة، تتزايد يومًا بعد يوم مع إدراكنا المتأخر أن آفة مجتمعنا الحقيقية هى غياب الوعى الحقيقى، الثقافة وأدواتها، وحاملى رسالتهم فى المجتمع «المثقف»! أين كان قبل الثورة وبعدها؟ أتى بالثورة أم التحق بها؟ وأين هو اليوم؟ المثقف بالتعريف هو الحامل لهموم مجتمعه، الساعى لنهوضه، يُسخّر وعيه وفنونه وإبداعاته لإخراج الناس من الظلام، ذلك هو دوره الذى يؤديه بكل رشاقة، بما يملك من رأى ورؤية لتغيير المجتمع للأفضل. المثقف المتعلم الواعى النابه، الناشط فى مجتمعه، ناشر المعرفة، يتحرك وسط الناس لا ينفصل عنهم، لا يتنكر لهم ولا يتعالى، ولا يسعى لإبهارهم، بل يسعى لإخراجهم من الجهل. يشحذ عقولهم، يطرح الأسئلة الصعبة، يدعوهم إلى التفكير والتأمل، واتخاذ قرارات ومواقف مستقلة. أين هو؟ هل تذكرون الستينيات، وما أدراك ما الستينيات.. هل ترونها على الشاشة وكتب الرواة؟ أقاليم مصر مزدهرة بأنشطة فنية وأدبية، حينما كان المثقف يتحرك بين الناس، لا يترك مجتمعه، بل يعود بعد تجول، يشارك ويعرض فنونه وآدابه. حتى تلونت الدنيا وجاء أوان الهجرة، لتتولى العاصمة بمثقفيها ومريديها تضليل الناس، وتركهم لموجات التغييب والجهل، تحت أقدام سلطة لا تخشى إلا وعيهم. ليتولى المثقف المهمة بتواطئه أو بوعى زائف حمله. حتى جاءت الثورة لتزيل آخر ورقة توت عن هذه النوعية ممن أطلق عليهم لفظ مثقف، وظهر ما خفى «المشتاق» لاهثا مهرولا، ليُسخر له الإعلام «الحر» كل ما يلزم لغربلة عقول الناس، فانطلق فى غير ما يتقن ويبدع. بحث عن حل مشكلات تهميشه الشخصى، سعى إلى السلطة أو المال أو الشهرة أو كلها، وتناسى أن أهله وناسه قدموه وأبدوه على أن يعبر عن طموحهم وآمالهم فى القضاء على تهميشهم الجماعى. وانصرف تدريجيا احترام الناس عنه، تمام كالمعلم الذى مات فى ضمير طلابه عندما فضل الدروس الخصوصية على رسالته وكرامته ومسؤولياته. لم ينتبه لضياع مصداقيته عندما لم يقدر الناس ولم يحاول فهمهم، لم ير إلا ذاته. سمِّ نفسك مثقفًا المثقف الحقيقى له اتجاهه ورؤيته، ولكنه غير موجه للناس يحاورهم ويجادلهم، ويلقى عليهم أسئلة صعبة، يدعوهم إلى التفكير والتأمل، يشجعهم على اتخاذ قرارات ومواقف. تبصيرهم، لا شحنهم وتأجيج حماسهم دون تفكير، ولا يقدم إجابات جاهزة. المثقف صاحب الموقف والرؤية المبدئية التى على أساسها يبنى عليها نقده للأوضاع السلبية فى مجتمعه، ويؤسس لتصوره الإصلاحى والثورى لتغيير الأوضاع. الناقد، الشجاع، المتحدى، المعلم، المبدئى، الأخلاقى، المتسق، المنغرس فى هموم مجتمعه، الداعم لقضايا المقهورين والمهمشين. المشكلة ليست فى غياب المثقف عن مجتمعنا، بل فى انحيازه وانعدام الموضوعية فى معظم مواقفه، سواء كان ممن يتزلفون إلى السلطة أو يتناقد معها كلية. كل الأدوات تستخدم لتحريك الناس وفق مصالح ما، بجانب نزعات الزعامة وحب الظهور والغرور والأنانية. لتكون النتيجة عملا دؤوبا لتغييب الناس، لأن مثقفنا قد قرر الاضطلاع بدور الموجه والمروِج والمهلل. لا يختلف معه إلا جاهل أو خائن، لا يشكك فى آرائه إلا حقود، هو الصح والحقيقة والبرهان، هو المثقف المطلق، هو وحده صاحب العقل، عزيزى هذا «ادينى عقلك...». ولا يخفى على كل لبيب أننى لا أعمم فلدينا كل الأنواع، فلا يبتئس أحد ولا يظن فى نفسه السوء، ولكل من شَعَرَ بأنه المقصود، لا تكذّب حدسك!