هي أم الروائي والصحفي إحسان عبد القدوس، وهي الممثلة المسرحية، ومؤسسة أكثر من فرقة مسرح، وهي الصحفية والكاتبة، وهي مؤسسة مجلة "روز اليوسف"، وهي مؤسسة سلسلة الكتاب الذهبي، وهي اليتيمة التي هربت من أهلها في العاشرة من عمرها، بحسب روايات سبق أن قدمها كتاب سابقون، ولم تتنصل هي منها. هي المشتعلة حماسا للكتابة وللتصدي للسلطة، وهي السيدة التي صادرت الحكومات المتعاقبة في أوائل العشرينات مجلتها عشرات المرات، حتى إنها أصبحت تتعامل مع صدور المجلة وخروجها للنور حدثا في حد ذاته، بينما المصادرة فعل روتيني يحدث كثيرا. في ذكرى رحيلها، 10 أبريل 1958، سنستعيد فاطمة اليوسف الصحفية، ومؤسسة إحدى أهم المجلات المصرية التي صمدت إلى هذه اللحظة.. كيف هربت من أهلها؟ فاطمة كانت يتيمة الأبوين، والدها محمد محيي الدين يوسف، وهو لبناني مسلم، توفي بعد سنة تقريبا من ولادتها، بينما فارقت أمها الحياة بعد ولادتها بقليل، كان الأب تاجرا اضطر للسفر من بيروت وترك ابنته في رعاية أسرة مسيحية، ورحل.. عاشت فاطمة حتى العاشرة بين أسرة جديدة لم تكن تعرف أنها تتبناها، وحدث أن روت لها مربيتها عن أصلها وأسرتها في بيروت، حينما قرر أحد أصدقاء العائلة أن يصطحبها في رحلة طويلة إلى أمريكا، وأبدت فاطمة اندهاشها من سهولة تفريط الأسرة فيها. تظاهرت فاطمة بقبول الترحال إلى أمريكا، وفي الإسكندرية رست الباخرة التي كان تقل الفتاة وصديق العائلة، فغافلته ونزلت إلى الإسكندرية وهي في العاشرة. وفي هذه المدينة الرحبة اكتفشها الفنان عزيز عيد، وعملت معه في البداية كومبارس حتى لعبت في سن السادسة عشرة دور "جدة" في مسرحية وقبلت بالدور شبه مرغمة، إلا أنه لاقى قبول الجماهير.. وبدأت في رحلة طويلة مع الفن المسرحي. لماذا أسست روز اليوسف؟ نشرت فاطمة اليوسف مذكراتها في كتاب "مذكرات فاطمة اليوسف"، وهو كتاب ممتع يكشف كثيرا عن تفاصيل حياتها وسياسات الدولة وفنانيها في عشرينيات القرن الماضي، وقسمته إلى قسمين: أيام الفن وأيام الصحافة. تقول فاطمة في مذكراتها إن فكرة إصدار المجلة جاء في محل حلواني "كساب"، أثناء جلوسها مع أصدقاء لها، فوجدت بائع الصحف اليومية يحمل مجلة "الحاوي"، وأبدت استياءها من الحملات التي تشنها المجلة ضد الفن والفنانين ومن الأخبار "الكاذبة"، فقررت تبني إنشاء مجلة تحقق هدف الأسلوب الراقي والمصداقية والأخبار الموثوق فيها. صدر العدد الأول من المجلة في 26 أكتوبر 1925، وشاركها في الكتابة وتحرير المجلة الصحفي الموهوب الشاب محمد التابعي، والكاتب الكبير عبد القادر المازني الذي انتقدها على صفحات المجلة لأنها دخلت مجال الصحافة، قائلا: "لعلها نزوة وعسى أن تكون قد جاءت نفسها بإحساسات قوية غامضة. كما يحدث لنا جميعا فاندفعت تبغي الإفضاء بها والكشف عنها والترفيه عن نفسها عن طريق ذلك". روزا ترد: ستصبح الفكرة يقينا في العدد نفسه من المجلة ردت روزا بمقال قالت فيه: "كل عمل مجيد يكون في أوله نزوة ثم يستحيل إلى فكرة فإذا رسخت أصبحت يقينا فجنونا. كذلك كان حالي مع الفن الجميل، كنت لم أتجاوز الرابعة عشرة حينما خطر لي أن أمثل". ومن بين الكتاب الذين شاركوا في تحرير المجلة أيضا الكاتب محمد لطفي جمعة، كما كتب أحمد رامي شعرا، وشارك الكاتب عباس محمود العقاد بمقال. أما الكاريكاتير فكانت شخصية أبو زعيزع. أنفقت روزا على العدد الأول كل ما تملكه من مال، وكان المتعهد لا يرد ثمن بيع المجلة إلا بعد أن يتسلم العدد التالي، وجاءت إليها فكرة توزيع اشتراكات على القراء، لكن كثير منهم لم يرحبوا بالفكرة لأنهم لم يتوقعوا استمرار صدور المجلة، إلى أن تدخل عدد من الفنانين لمعاونتها في تحصيل أموال التوزيع والاشتراكات بشراء النسخ، ومنهم زكي رستم قبل أن يشتغل بالفن وأم كلثوم، التي دفعت اشتراكا وأخذت بقية الاشتراكات لتقوم بتوزيعها بنفسها على أصدقائها، وتوالت الأعداد في الصدور. تحولت المجلة سريعا إلى صوت حر، يتابعه الفنانون وأهل السياسة والثقافة، وتحملت مصاعب في عملها، لم يكن أهمها التوجه يوميا سيرا على الأقدام من الزيتون إلى سراي القبلة لتستقل الأتوبيس الذي تصل به إلى المجلة. اقتربت فاطمة اليوسف مع حزب الوفد الذى ضم المجلة إليه، ولم تدم العلاقة الوطيدة بين فاطمة اليوسف والحزب، فسرعان ما تحولت إلى عداء بعد انتقادها رئيس الوزراء نسيم باشا، ففصلها حزب الوفد من الحزب وصادر مجلتها. ولم تستسلم روز اليوسف وأسست صحيفة روز اليوسف اليومية التى صدرت فى 25 مارس عام 1935 والتى رفض باعة الصحف بيعها بعد أزمة مؤسستها مع حزب الوفد فتراكمت الديون عليها وتعرضت لأزمة مالية خانقة، وبعد صراعات كبيرة مع الموزعين ومسئولي الدولة وقتها بدأت في إصدار الجريدة التي صودرت كثيرا. هذه هي فاطمة اليوسف، تاريخ طويل من العناد والرغبة الجامحة في الحرية.