كتبت: رحمة ضياء يدٌ آثمةٌ ضغظت على الزناد فانطلقت طلقات الخرطوش بسرعة القدر، لتخترق القلب والرئتين. يباغت "شيماء" الألم، تبدو طعناته المتوحشة جلية على معالم وجهها، الذي نال نصيبه أيضا من "رش" الخرطوش، فانبثقت منه أودية من الدماء، وتفجرت أنهارا آخرى بتجويفها الصدري، تحملها الأذرع في محاولة يائسة لإنقاذها، قبل أن تصعد روحها إلى بارئها، دون أن يمهلها الخرطوش الغادر، الذي برء ساحته تقرير الطب الشرعي، لتوديع ابنها "بلال"، الذي تركته في الإسكندرية يلهو بألعابه في انتظار العودة إلى حضنها، الذي فارقه للأبد وهو لا يزال ابن الخامسة! لم يصبر عليها "الخرطوش"، الذي قالوا عنه أنه لا يقتل في الحالات العادية، حتى تعد له ساندوتشات المدرسة، التي لم يعد يذهب إليها منذ أن قالت له خالته "ماما راحت عند ربنا"، فلا يزال "بلال" ينتظرها أن تقضي مشوارها وتعود إليه كعادتها، تاركا كراسة الواجب مفتوحة حتى تعود و تحتضن يده الصغيرة بكفها الكبير ويرسمان معا "باء البطة" و"ثاء الثعلب"، وتقص عليه حكاية قبل النوم قبل أن تضع قبلة حنونة على جبينه ينام بعدها قرير العين، مطمئنا. ولم يشفق على طفل ضائع يسأل بعيون حزينة جدته وخالته "هقول لمين ياماما"؟! يأتي يوم اليتيم على "بلال" هذا العام، وهو لا يعي أنه صار يتيما ولا يعرف كيف ماتت أمه، كل ما يعرفه أنه اشتاق إليها كثيرا فيرسمها في كراسة الرسم، بعد أن فقد الأمل في أن تعود إليه من عند ربنا، ومنذ اندلاع ثورة 25 يناير وصولا إلى ثورة 30 يونيو وما تلاهما من أحداث عنف وتفجيرات واغتيالات، أصبح في مصر ألف "بلال" و"بلال"، ممن فقدوا ظهر الأب أو حنان الأم، ودفعوا ثمن أحلام التغيير وتلبية نداء الوطن وثمن رصاص الإرهاب كذلك. "هتزعل لو قلتلك أن ربنا بيحب ماما عشان كده أخدها عنده" .. بهذه الكلمات حاولت "دعاء" شقيقة شيماء الصباغ، أن تنقل خبر مقتلها إلى "بلال"، لكنه لم يستوعب ما الذي تقوله خالته فيسألها بحيرة وقد بدأ الخوف يدب في قلبه:" يعني إيه يا خالتوا.. فين ماما"، فترد الخالة "ماما ماتت يا حبيبي وراحت عند ربنا" فينهار الطفل في البكاء وهو يسألها من جديد "ماتت إزاي يعني"، تخشى على طفولته البريئة فتكذب عليه "كانت قاعدة وماتت فجأة عشان ربنا عاوزها تبقى عنده"، لا يصدق الطفل أن الله يريد أن يحرمه من أمه ويأخذها منه ويظل يبكي ولا يتحدث إلى أحد حتى يعيدها إليه! يرفض الذهاب إلى المدرسة مادامت لن تأخذه إليها، يطلبها باستمرار لعلها تأتي وحين ييأس ينكب على كراسة الرسم فيرسمها، أو يلهو في رسوماته الآخرى، فتتنهد جدته مشفقة عليه، يجلس مع الجدة عدة أيام ومع الخالة أيام آخرى، أو يأخذه والده وجدته لوالده ليقيم معهما عدة أيام بدورهم، وهكذا يقضي أيامه منذ رحيل والدته متنقلا بين عدة بيوت في أحياء الإسكندرية. تشفق عليه الخالة حين ترى انطوائه وحزنه المتزايد يوما بعد يوم فتأخذه في نزهة، تبتاع له مسدس لعبة، وتضع على ملابسه دبوس مرسوم عليه وجه أمه، وتأخذه إلى الشاطىء ليلعب بالرمال وتلتقط له الصور. يعود إلى المنزل فيقطع الوقت في الرسم أو مشاهدة التلفاز وألعاب الكمبيوتر، لكنه لا يفتأ يذكر أمه ويسأل خالته سؤاله الحائر: كل العيال عندهم ماما ، أنا هقول ماما لمين؟!