لا أعرف من أين أبدأ وإلى أين سأنتهى.. قررت أن أكون منساقا وراء قلمى، يملى ما يريد أن يملى، ويحذف ما يريد أن يحذف، لكنى أعرف عمن سأكتب، فلقد ترددت كثيرا قبل كتابة هذه السطور، فمن أكتب عنه لم يكن يوما مشهورا أو معروفا بالنسبة إلى كثير من الناس، وبالتالى ربما لا تكون على رأس اهتمامات المنشغلين بالشأن العام والمتابعين لمقالات الرأى متابعة سير من لا يعرفون، بالأخص فى ظل ما تشهده البلد من فترة تحول سياسى واقتصادى واجتماعى شديدة الصعوبة، لكن وجدت أن عدم معرفة الناس به ربما تكون سببا كافيا للكتابة عنه اليوم، وأن ما تعلمته منه ربما يكون مفيدا للبعض. لا أزال أتذكر اللحظة التى رحل فيها جدى عن الدنيا منذ ستة عشر عاما بكل تفاصيلها، فقد كانت أول تجربة لى مع فراق الأحباب. لقد رحل فى صمت كما عاش يعمل فى صمت من أجل أسرته وبلده. لقد أفنى جدى -الله يرحمه- حياته فى الحكومة المصرية وعديد من المؤسسات المالية والدولية، محاولا أن يكون جزءا من الحل بدلا من المشكلة، لمدة أربعين عاما لم ينافق فيها وزيرا أو رئيسا.. علمنى أن الاستقلال الذاتى هو ما يجعلك صاحب مصداقية وحيثية. ظننته يوما زاهدا عن الحياة ومتاعها، فلم أجده فى أى موقف ساعيا إلى منصب أو مال، بل رافضا لهما رغم ما يملكه من مؤهلات علمية وخبرات عملية. لكن إن بعض الظن إثم، فقد كان طامعا فى ما هو أفضل وأسمى ألا وهو السلام النفسى، فقد كان يعرف جيدا أن السعادة الحقيقية ليست فى سلطة أو مكاسب مادية بل فى التعفف والرضا، فالقناعة كنز لا يفنى، وأن الرضا لمن يرضى. واليوم وأنا على أعتاب الثلاثين من عمرى أتخذ من دروسه دستورا حاكما لحياتى. فقد أحببت التاريخ منذ صغرى دراسة التاريخ وقراءة حكاياته، بسبب الشغف الذى رأيته فى عيونه، وهو ما زال يعتبر نفسه تلميذا لدروس التاريخ، فرغم ما حصل عليه من شهادات ودرجات علمية بعيدة عن مجال تخصصه فى الهندسة، فإنه لم يتكبر عن قراءة كتاب أكثر من مرة، ليخرج منه بعظة أو معلومة جديدة. علمنى أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن لا يوجد مستقبل دون التعلم من دروسه. رأيته رجلا يحترم ويقدر المرأة، فكلما جاءت سيرة جدتى رحمها الله وجدته فخورا بعملها وعلمها، فقد ساعدها فى أن تحصل على الدكتوراه، وتتخصص فى مجال اختارته لنفسها، فلم يشعر يوما بمنافستها له، بل كان يراها شريكا فى بناء الأسرة وتنمية البلد. علمنى أن وراء كل امرأة عظيمة رجلا. أعرف أنه ليس رجلا مثاليا، وأننى بالتأكيد متحيز حينما أكتب عنه، فمن منا بلا عيوب أو أخطاء. ولكن كل ما أردته هو أن أكتب عن مواطن مصرى أراه بطلا مثله مثل الكثير من الذين فارقونا ولم ننشد سيرهم أو نعطهم قدر حقهم.