طالعنا الأديب والصحفي الكبير"وديع فلسطين"(1923م) في الصفحة الأخيرة من مجلة المصور في عددها بتاريخ 10نوفمبر 2010م، بما قاله في حق الأديب العالمي الراحل"نجيب محفوظ"(1911 2006م)، وفي حق تقييمه "لأحلام فترة النقاهة"، والتي عدها من كبوات"نجيب محفوظ"، حيث انها من هلوسات الأحلام التي لا يسلم منها احد، ولا تستحق أن ترصد كعمل أدبي، إلا انه كانت لنا قراءتنا الخاصة لما عده "وديع فلسطين" من كوابيس"نجيب محفوظ"؟. كواليس نجيب محفوظ؟ في أول الأمر اعتبرها"وديع فلسطين" أحلاماً مسترسلة كتبها "نجيب محفوظ" فور استيقاظه من النوم، إلا انه عاد وأقر أنها من تأليف كاتبها، ثم سمعنا منه ما آلمنا في حق مؤلفها الذي هو في دار الحق الآن بأن يقول عليه:" لعل القارئ يسال نفسه؟... ما الفائدة أو المغزي من الأحلام؟ فلا استخرجنا منها درساً نعتبر به، ولا وجدنا فيها متعة، أو مادة مسلية تذهب السأم، ولا عرفنا منها حقيقة نجهلها، وإنما هي أحلام لا قوام يشدها، ولا حبكة تجلو جوانب الإبداع فيها، وما دامت أحلاماً وليست كوابيس، فليت نجيب محفوظ قد نسيها عند اليقظة... ولا أظن أن نجيب محفوظ استمتع بهذه الأحلام، سواء في فترة النقاهة أو بعد استرداده صحته فهل يريدنا نحن أن نستمتع بها؟"، وطالما "وديع فلسطين" يسأل القارئ؟ عن المتعة التي وجدها في "أحلام فترة النقاهة"؟ فببساطة شديدة هذه الأحلام ما هي إلا خطاب تحتاج القارئ التأويلي فهي ذات مستويات متعددة من الدلالة أولها، وأدناها هو ما وجده "وديع فلسطين" خاوية وخالية الدلالة، لا قوام يشدها، ولا حبكة تجلو جوانب الإبداع فيها، وحين يعلن احد القراء عن وصول الدلالة إليه علي هذا النحو فقد اعتبره "نجيب محفوظ" نجاحاً تعمد الوصول إليه، وربما لو كانت لدينا المخططات الأولي التجريبية لهذه الأحلام لأمكننا رصد تطور شفرتها علي نحو ما ترصد الكواليس ظواهر الأشياء، فهذه الأحلام هي كتابة مكودة لأفكار"نجيب محفوظ" الفلسفية، يعد فشل"وديع فلسطين" في العثور علي متعة من قراءتها شيئاً بالغ الدلالة متخطياً للموقف، فهل كلما فشل احد القراء في العثور علي دلالة المؤلف، أعلن فشل المؤلف؟ أم اعترف بعجزه عن بلوغ مرامي المؤلف؟ بل إن كثيراً من المؤلفين من يعترف بوجود دلالات إبداعية متخطية لرموزهم لدي القراء، ولم تكن في حسبانهم، كما اقر"أمبرتو إيكو"(1932م) الأديب الروائي الايطالي " أستاذ علم الرموز عند قيام القراء بتحليل رموز روايته"اسم الوردة"، حيث الإبقاء علي تلك الاكواد الشفرية يطيل عمر النص، وان رؤية"وديع فلسطين" للأحلام علي هذا النحو قد أضافت إليها عمراً آخر فوق العمر الذي استهدفه"نجيب محفوظ"لخلود إبداعه. حلم الأوانس؟ سوف نعلن عن أنفسنا كأحد القراء، والذي ربما نجح في بلوغ مرامي "نجيب محفوظ"، ففي الحلم الأول الذي لم يصل عبره"وديع فلسطين" لفكر صاحبه حين قال:"أسوق دراجتي من ناحية إلي أخري مدفوعاً بالجوع باحثاً عن مطعم لذوي الدخل المحدود، ودائماً أجدها مغلقة الأبواب" فالجوع رمزاً للغرائز التي تتملك صاحبها، من جوع، وجنس، ورغبات مادية صرفة، وإشباع هذه الرغبة يكون بإطعام الجسد، بحثاً عن الطعام، في المستوي الدلالي الأول للرمز ابستومولوجياً، ذلك الطعام هو الرغبة الجنسية الواجبة الإشباع، في مستوي الدلالة الأعلي، فبحث عن امرأة يرتبط بها من أجل إشباع هذه الرغبة بالاقتران بالزواج، فكان طلبه للزواج من إحدي بنات"الدخل المحدود" الطبقة البرجوازية المتوسطة، إلا انه فشل في الزواج من إحدي بنات تلك الطبقة المتوسطة، فلم يكن محل رضا منهن، لأنهن يتطلعن للزواج من احد أبناء الطبقة الراقية وليس للارتباط برجل من نفس طبقتهن، وهو هنا يذكر مأساة أبناء الطبقة المتوسطة، من موظفي الحكومة حين يتقدمون للارتباط بإحدي بنات طبقتهم، حيث يتم رفضهم،"وحانت مني التفاتة إلي ساعة الميدان فرأيت أسفلها صديقي فدعاني بإشارة من يده فملت بدراجتي نحوه، وإذا به عالماً بحالي، فاقترح علي أن اترك دراجتي معه ليسهل علي البحث" بدأ العمر يتقدم ب"نجيب محفوظ" دون زواج، وإشباع لرغبات جسده، وفشله في الزواج من إحدي بنات طبقته، كما تدل"ساعة الميدان" التي حانت منه التفاتة إليها، فقد أردك تقدمه في العمر، فوجد أسفلها "صديقه"، وصديقه هنا هو العقل والمبادئ الأخلاقية التي يمليها علي صاحبه أن يكون هذا الإشباع بالطريق الاخلاقي بالزواج، ومن بنات طبقته، إلا أن العقل عند"نجيب محفوظ" أملي عليه توجهات المرحلة العمرية التي يعيشها، دون قدرته علي الاقتران بالزواج بإحدي بنات الطبقة المتوسطة، فأمره أن يتخلي عن مبادئه الأخلاقية العقلانية، حتي يستطيع أن يجد سبيلاً في المجتمع الذي يعيش فيه لكي يشبع رغباته الجنسية، فتنازل عن مبدأه في الارتباط بإحدي البنات التي تنتمي لنفس طبقته الاجتماعية،"وجوعي يشتد وصادفني في طريقي مطعم العائلات" ومطعم العائلات هنا للدلالة علي طريقة الزواج باختيار الأهل، استمر"نجيب محفوظ" في معاناته من فشله في إشباع رغبته الجنسية، فاتجه لاختيار شريكة حياته من احدي بنات الطبقة الارستقراطية كما يرمز إليها"مطعم العائلات" تلك الطبقة التي لا ينتمي إليها، وعد تقدمه لطلب يد احدي بناتها تركاً، وتخلياً عن منهجه العقلي في اختيار شريكة حياته، "فبدافع من الجوع واليأس اتجهت نحوه علي الرغم من علمي بارتفاع أسعاره"، وارتفاع أسعار "مطعم العائلات" رمز إلي الصعوبات المادية التي كانت تنتظر"نجيب محفوظ" عند اقترانه باحدي بنات الطبقة الارستقراطية في المجتمع، وبالطريقة التقليدية، ورضي أن يتحمل تلك الأعباء المادية في سبيل تحقيق إشباع لرغبته الجنسية، إلا أنه حدثت له مفاجأة؟ "ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام ستارة مسدلة، فما كان منه إلا أن أزاح الستارة، فبدت خرابة مليئة بالنفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج ماذا جري؟"، هنا يرمز"نجيب محفوظ" لحقيقة الطبقة الارستقراطية في المجتمع، والزواج بتلك الطريقة، فهن قد احتجبت حقيقتهن خلف"ستائر مسدلة" عندما تمت إزاحة تلك الستارة التي تخفي حقيقتهن من مظاهر تلك الطبقة الراقية الارستقراطية، والبهرجة الزائفة، التي يضفيها عليهن "البهو الفخم" من قصور يسكن بها، وعادات وتقاليد تلك الطبقة، ليكتشف حقيقتهن،"خرابة مليئة بالنفايات"، هنا يصور"نجيب محفوظ" بنات الطبقة الارستقراطية، وقد أزال عنهن المظاهر البراقة اللاتي يختفين تحتها، وظاهر تلك العروض التقليدية للزواج، فوجدهن نفايات المجتمع، فانصرف عن الاقتران بإحدي بنات تلك الطبقة الارستقراطية، ولتستمر معاناته في البحث عن عروس لإشباع رغبة الجنس لديه،" فقال الرجل أسرع إلي كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب" هناك شخصيتان في هذا الحلم: نجيب محفوظ"، والرجل الذي تحت ساعة الميدان، فالرجل الذي تحت ساعة الميدان رمز للقدر، وتصاريفه حسب الظروف التي يمر بها الإنسان، فهو الذي نصحه في أول الأمر بأن يتخلي عن أخلاقه ومبادئه في الاقتران بإحدي بنات طبقته ولكنه فشل، وهو الذي دفعه للارتباط بإحدي بنات الطبقة الارستقراطية، وزواج الصالونات، وفشل أيضاً، وهو في هذه المرحلة من عمر"نجيب محفوظ، أملي عليه أن يتخلي عن كل مبادئه الأخلاقية، ويتجه لإشباع رغبته الجنسية، بأي وسيلة كانت، حتي وإن كانت لا أخلاقية، كما يتضح من دلالة"كبابجي الشباب" قبل أن يمضي به العمر، ويفقد قدرته الجنسية دون إشباع لها، تلك هي المأساة التي يحكيها"نجيب محفوظ" في منامه هذا؟ فهي مأساة من يسعي لإشباع رغبته الجنسية حسب قوانين المجتمع الأخلاقية بالزواج من إحدي بنات طبقته، أو إحدي بنات الطبقة الارستقراطية بالطريقة التقليدية، ولكنه فشل في كل هذه المحاولات، فما كان أمامه في ظل حركة العمر، وإلحاح الرغبة الجنسية عليه"الجوع"، إلا أن يشبع رغبته الجنسية بطرق غير أخلاقية،"ولم أضيع وقتاً فرجعت إلي ساعة الميدان ولكني لم أجد الدراجة والصديق"، فقرر الانصياع لما أملته عليه الظروف، والقدر، فقام بإشباع تلك الرغبة عنده متخلياً عن جميع مبادئه الأخلاقية القديمة، كما يصفها"ولكني لم أجد الدراجة والصديق" وهنا "نجيب محفوظ" يؤرخ لتلك الفترة في حياته التي كان يقيم فيها علاقات جنسية كما وصفها في إحدي خطاباته الشخصية مع"الأوانس"، والتي يتضرر فيها من أمراض البروستاتا التي ألمت به نتيجة ذلك، فهي فترة في حياته كانت نتيجة فشله في الاقتران بالزواج لإشباع رغبته الجنسية، فكانت فترة عاشها منساقاً وراء غريزته، دون عقل يملي عليه مبادئ أخلاقية. نجيب محفوظ يبحث عن كبابجي؟ يرتفع الرمز بالجوع من مستواه الأول الظاهر كجوع للطعام، إلي المستوي الثاني كرغبة جنسية، فينتقل إلي المستوي الأعلي كرغبة في معرفة سر الوجود والحقيقة الغائبة، فهنا"نجيب محفوظ" يكشف عن منهجه عبر مراحله العمرية المختلفة، فكانت المرحلة الأولي يقوده المنهج العقلي، مرموزاً إليه بالدراجة، كدليل علي المنهج الاستدلالي الوضعي الذي ينتقل فيه الإنسان من المقدمات إلي النتائج، المعتمد علي التجربة والمشاهدة والاستنتاج، والتي وصل إليها علماء عصره، أو كما هي عند عموم الناس ذوي التفكير المحدود"لذوي الدخل المحدود"،ولكن هذا المنهج لم يقدم له إجابات واضحة عن سر الوجود، فقد كانت"مغلقة الأبواب" تلك المناهج العقلية المعتمدة علي الرغبة في المعرفة، فقام بتغير نموذجه الارشادي العقلي بالبحث عن الحقيقة عن طريق المناهج القلبية المستقرة في فكرة الأديان السماوية، في دلالة"مطعم العائلات"، متخلياً عن منهجه العقلي في هذه المرحلة، ولكنه عاني منها بحجم الإيمان الغيبي، كثمن للانتماء إليها، و"ارتفاع أسعاره"، ولم يجد فيها رغم تنازلاته العقلية ضالته التي يبحث عنها، وعندما قرر أن يعود مرة أخري إلي منهجه العقلي القديم"كبابجي الشباب" كان العمر تقدم به، ولم يعد يدري اي المناهج العقلية والمدارس الفلسفية ينتمي إليها؟ وهو ما يعرف بمهنج اللاأدرية مثل الذي لم يعد يجد "دراجته"، ولا "صديقه" القديم، ففي هذا الحلم يحكي"نجيب محفوظ" مصير الإنسانية في سعيها لإدراك حقيقة الوجود بالمنهج العقلي، والمنهج القلبي، وعلاقة الإنسان بتلك المصادر المعرفية، حتي منهج اللاأدرية، وصعوبة بلوغها بأي من تلك السبل، فما كان بحث"نجيب محفوظ" عن كبابجي سوي بحث الإنسان عن حقيقة الوجود الغائبة، ثم نعود بالتغذية العكسية بدلالة أعلي مستوي تأويلي للرموز لقراءة النص مرة أخري في ضوئه، ليستمر النص في تغير مستويات دلالاته عبر القراء، علي حد قول"ستانلي فش" أستاذ القانون، والآداب في جامعة ديوك بالولايات المتحدة، حيث يتراوح النص بين النمو اللامتناهي والانكماش عبر سلطة الجماعة المؤولة، من القراء، فأقصاها أن"نجيب محفوظ" يبحث عن حقيقة الوجود عند ثلاث كبابجية: الأول، كبابجي ذوي الدخل المحدود، أي المدارس الفلسفية والمذاهب الفكرية، والثاني كبابجي العائلات، عند الأديان السماوية، والثالث كان كبابجي الشباب، وهو مذهب اللاأدرية، وكان المستوي الأول للدلالة، هو عدم وجود نص في النص كما هو عند قراءة"وديع فلسطين. لاشك أن الأديب الكبير "نجيب محفوظ" قد تعرض لظلم بين من صديقه القديم الصحفي الكبير"وديع فلسطين" عندما وصف "أحلام فترة النقاهة" بأنها كبوات، وهلوسات، ولا تستحق أن ترصد كعمل ادبي، وهي التي انتقل بها صاحبها من الرواية الرمزية الفلسفية إلي القصة القصيرة الرمزية، إلي الأقصوصة، ثم تحدي بها الجميع في بأحلامه في القصة الذرية الرمزية، التي تحكي مأساة سعي الإنسانية في معرفة سر وجودها، رحم الله"نجيب محفوظ" بإذنه، وأطال عمر عميد الصحافة"وديع فلسطين".