تضاربت الأنباء حول حقيقة المؤشرات الداخلية والخارجية التى تتحدَّث عن اقتراب المصالحة بين جماعة الإخوان والدولة المصرية، وسيطرت هيستيريا الإعلام الخاص فى التناول، حيث جعلت مجرد طرح الفكرة تهديدًا للأمن القومى المصرى، الذى لم نحظَ حتى الآن بتعريف واضح له ولمقتضياته، إذ تحوَّل إلى كابح يلجأ البعض إليه لتسويق أحقاده أو مصالحه، بدعوى حماية الأمن القومى المصرى الذى لا أرى له تهديدًا أعمق أثرًا من حالة الانقسام والتشظِّى والاحتقان المجتمعى، التى تدفع شريحة حتى لو كان حجمها محدودًا إلى معاداة الدولة والمجتمع والرغبة المحمومة فى إسقاطها. كل دول العالم فى النهاية حتى وهى تواجه حركة تمرُّد مسلح، ولو كانت تسعى للانفصال، تراوح بين وسائل متنوعة تعكس قدرتها التى لا تختزلها أبدًا فى القوة المسلحة التى لا تنهض لعلاج مشكلة فكرية سيطرت على عقول شريحة على مدار عقود، راكمت مجموعة من القناعات النظرية والحركية التى جعلتها تناقضًا مع مسيرة دولة متعثرة ولم تعد فى أحسن حالاتها كما يتفق الجميع فى تشخيص حالة الدولة المصرية. إن اختزال المشهد المحلى والإقليمى والدولى والصراعات الدائرة عبر نطاق جغرافى واسع فى إطار نظرية المؤامرة التى تستخدم فيها قوى داخلية من أجل إضعاف دول المنطقة، أو أطماع الدول فى بعض ثرواتنا هو تسطيح للمشكلة وهروب من المواجهة الصحيحة. ما نشهده هو فصل متقدّم من فصول الصراع بين دولة وطنية تراجعت لياقتها إلى حد بعيد، ولم تعد مؤسساتها قادرة على النهوض بأدوارها، خصوصًا مؤسسات التنشئة والتعليم والثقافة والأزهر والإعلام. منذ بداية القرن ومع نشأة الدولة الوطنية الحديثة اعترضت مسيرتها العديد من العقبات التى عطلت حركتها وإنجازاتها فى النهاية، سواء الكيد الخارجى من الاستعمار أو صنيعته إسرائيل، أو ما أصابها من فساد واستبداد أعاق تقدمها نحو الديمقراطية وإتاحة المشاركة السياسية، التى أعاقت ولادة بدائل للاستبداد السياسى أو الفاشية الدينية التى أنتجت حركات كالإخوان والسلفيين والجهاديين، ممن تشاركوا حلم صناعة دولة دينية، ادَّعى الإخوان مدنيتها، رغم أن حركتهم ونشاطهم وسلوكهم الداخلى والسياسى مع الآخرين عكس أقصى درجات الفاشية الدينية. أما السلفيون فقد كمنوا فى انتظار اللحظة المناسبة حتى حانت لحظة ما بعد 25 يناير التى أتاحت لكل هؤلاء، سواء السلفيين أو الجهاديين أو الإخوان، أن يؤسسوا أحزابهم ويدعون القبول بالدولة الوطنية والعمل من خلالها، مضمرين الشر لتلك الصيغة التى هى أفضل ما أنتجته التجربة البشرية، لكن ربما ما أصابها من عوار ليس تعطيل مسارها من خلال ما سماه المستشار البشرى مثلث الصراع فى مصر بين الإسلاميين والجيش والليبراليين، حيث ينطوى ذلك على اختزال لمعادلة الصراع بين أطراف ثلاثة، ربما تبدو هى المشتبكة فى المشهد الحالى، لكن حقيقة الصراع بين ثلاث صيغ للدولة، الأولى سلطوية والثانية دينية، أما الثالثة فهى وطنية حقيقية تبدو غائبة ولها دعاتها وأنصارها وهم كثر وربما أكثر من دعاة الدولتين السابقتين، ولكنهم متفرقون مختلفون حول تفاصيل تافهة واتفاقهم المرتقب قد يغيّر كل قواعد اللعبة، وأتصور أنهم الأولى برعاية مصالحة ليس بين الدولة والإخوان، ولكن بين الدولة وكل مَن أساء إليها وشوَّه صورتها من كل الفرقاء. مصر الكبيرة لا يصح أن تبقى رهينة محاولات متباينة القصد والهدف من الشقيقة العربية السعودية أو غيرها من الدول، بل يجب أن يحدّد العقلاء فيها مسارات حركة صحيحة تحرر المعنى الحقيقى للمصالحة. لن تجدى أوصاف السب أو نعت كل طرف للآخر بالمجرم والعميل وغيرها من قاموس الإعلام الحافل بسخائم المال السياسى أو الطبائع السقيمة (الموتورون يتوارون الآن رجاءً)، إذ إن مستقبل وطن وأمن بلد محورى يراد لهما الشر على المحك الآن، ولا يصح أن ينجرف أبناؤه لما انجرفت إليه أقطار شقيقة. لن يكتب لهذا البلد مسار صحيح للنجاة ما لم نحترم جميعًا مواد العقد الاجتماعى التى فصلها الدستور الذى توافقنا جميعًا عليه، بكلمتيه الافتتاحيتَين الحقيقة والعدل، لذا يجب أن تنشأ فى هذا البدل مؤسسة تضع الناس فى حقائق ما جرى منذ 25 يناير وحتى اليوم، تجلى ما الثورة؟ وما أهدافها؟ ولماذا قامت؟ حتى لا تتكرر الفوضى التى هى قرينة أى فعل ثورى بما لا يسمح بخلط الأوراق من جديد وعدم التلاعب بعقول الناس، وتحرير المعنى الحقيقى لدولة المؤسسات التى تخدم فيه تلك المؤسسات المواطن، وليس أعضاءها أو زمرة من الفاسدين؟ كيف نوفّر غطاءً قانونيًّا لعدالة انتقالية تفتح الباب لمقاربات ومواءمات فى إطار تسوية كلية لكل مسببات الاحتقان المجتمعى والسياسى؟ إن المصالحة لا تعنى تسوية بين شركتَين أو عمل مقاصة فى الحقوق، بل تعنى احترامًا لضوابط العيش المشترك ونزولًا على أحكام الدستور والقانون من الجميع دون تفرقة على أى أساس. كفانا ابتذالًا وتشويهًا لكل قيمة يتولّى كِبْرَها فى الغالب إعلاميون موتورون، ينعقون كالبوم، ليفسدوا كل محاولة لقطع الطريق على مؤامرات أعدائنا التى تستهدف هدم البناء الداخلى بما يسهل اجتياحًا يتلمظ شوقًا لهدم أسوار بيوتنا، لينتصب العقلاء دون خوف أو ضجر ويتقدَّموا لتلك المهمة المقدسة قبل فوات الأوان.