لا تتحدث هذه المقالة عن الأطراف المحتملة التي ارتكبت جريمة انفجار كنيسة القديسيْن بالإسكندرية في الساعة الأولى من عام 2011، ولا تقدم البراهين على أن هذا العمل الإجرامي لا يمت بصلة للإسلام أو أنه يخترق أبجديات حقوق الإنسان. إن ما تهتم به المقالة هو الأسباب والأوضاع التي هيأت المجال العام في مصر إلى هذا الإحتقان الطائفي والإختراقات الأمنية. ضعف الدولة وفشل الحكومة بالطبع لا يمكن اختزال أسباب الجريمة في عنصر واحد. لكن هناك حقيقة تقول إن الإحتقان الطائفي لا ينمو ويستفحل أمره إلا في الدول الضعيفة التي تتحكم فيها حكومات لا تعمل إلا لمصالح فئات محددة. لهذا فالعامل الجوهري، في اعتقادي، هو ضعف الدولة ومؤسساتها وفشل حكوماتها في أداء وظائفها. أما العوامل الأخرى التي يحلو للبعض البدء منها لتفسير ما حدث -كالخطاب السلفي الأخير، المناهض للكنيسة، والخطاب الديني بشكل عام في المنابر والفضائيات، وتصاعد الدور السياسي للكنيسة الأرثوذكسية وتحركات أقباط المهجر- فهي في اعتقادي نتيجة لذلك العامل الجوهري. ضعف الدولة أدى إلى نتائج سلبية كثيرة، أولها انتشار ثقافة اقصائية ترى الأمور باللونين الأبيض والأسود، تشترك في ترويجها وسائل إعلام غير منضبطة تفتح المجال أمام محترفي الشهرة والنجومية أو ضيقي الأفق، وتغرز قيم هدامة وسلبية في كثير من الحالات. كما يسهم في نشر هذه الثقافة النظام التعليمي الضعيف والذي يخرج أجيالا أحادية التفكير، لا تمتلك أدنى مقومات الإنتماء والوطنية والتسامح. هذا بجانب أن ضعف الدولة ومؤسساتها الدينية، وعلى الأخص مؤسسة الأزهر، أدى إلى خلو المجال العام من خطاب ديني عصري، ومن ثم إفساح المجال أمام شيوع خطاب ديني إقصائي لا يصلح حتى للعصور الوسطى. وقد أنتجت هذه الثقافة سلوكا كان غريبا عن المجتمع المصري حتى سنوات قليلة خلت، فبعض المسلمين يربون أبناءهم على عدم التحدث أو الإختلاط بالمسيحيين، كما أن من المسيحيين من يرون أن المسلمين ضيوف على مصر، ومنهم من أعلن استعداده للشهادة لمنع تفتيش الأديرة! الدور السياسي للكنيسة ولعل من أبرز نتائج ضعف الدولة هو قيام الكنيسة الأرثوذكسية، منذ مطلع السبعينيات، بدور سياسي في المجال العام للدولة المصرية بعد أن حافظت لقرون على وظيفتها الأصل وهل الوظيفة الروحية. لقد ظل المصريون –المسيحيون والمسلمون واليهود– يمارسون العمل السياسي من خلال مؤسسات سياسية ومدنية كالأحزاب والنقابات حتى مطلع السبعينيات، ويكفي هنا التذكير بإلتحام المصريين جميعا ضد الإنجليز ونضالهم معا من أجل الإستقلال، وتولي أقباط مناصب رفيعة في الدولة قبل عام 1952، منها منصب رئيس الوزراء. اليوم تصاعد النفوذ السياسي للكنيسة داخل الدولة وصارت الحكومة تتعامل معها بعيدا عن القانون وكأن الكنيسة دولة داخل الدولة. ومارست الكنيسة عمليات ابتزاز تجاه الدولة وتطاول بعض رؤوسها على الدولة وعلى القرآن، ثم كان تعنت الكنيسة في مسألة احتجاز السيدتين اللتين تردد أنهما اعتنقا الإسلام وسلمتهما أجهزة الأمن للكنيسة، كما لام بعض المسيحيين الكنيسة لدفعها المسيحيين إلى مصادمات مع الشرطة في أحداث العمرانية في 24 نوفمبر. ولا ندري ما هو تفسير إفراج النائب العام بعد ثلاثة أيام من تفجير الإسكندرية عن 23 قبطيا من المحتجزين على خلفية تلك المصادمات. ومع ضعف الدولة ومؤسساتها وحرص النظام على استمراره، استخدم الأمن لتأمين الحكومة والنظام وقمع المعارضين وإحتواء الأحزاب والنقابات وكافة القوى الوطنية بدلا من الإنشغال بوظيفته الأسمى والأرفع وهي أمن المجتمع بكافة فئاته وطبقاته ومؤسساته. والأخطر أنه كلما ضعفت الدولة، كلما ازداد ميل الحكومة نحو حسم القضايا والمشكلات بالخيارات الأمنية. هكذا سارت الأمور مع المسيحيين ومع الأخوان بل ومع المعارضين وأساتذة الجامعات. الدول الحديثة لا تستخدم الأمن إلا لضبط الأمن الجنائي وليس لقمع المعارضين أو للتعامل مع الخلافات السياسية والفكرية. هذه الأوضاع السيئة هي التي أدخلت البلاد في صفقات مشبوهة بين الحكومة والكنيسة على حساب القانون والمواطنة، الأمر الذي أغضب بدوره فئات أخرى ودفعها للخروج في مظاهرات ضد الكنيسة، وهذه فئات ما تظاهرت قط من قبل برغم كل المصائب التي مرت بها مصر من غلاء واستبداد وتبعية خارجية وتزوير انتخابات واختراقات إسرائيلية. وأقصد هنا هبة التيار السلفي ومظاهراته ضد مسألة احتجاز السيدات المصريات في الكنيسة. الاختراق الخارجي للدولة والأخطر أن ضعف الدولة فتح المجتمع أمام الإختراق الخارجي لزرع بذور فتنة طائفية، إلى الحد الذي لم نسمع معه أي تعليق من مسؤول واحد على تصريح الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، الجنرال عاموس يادلين، الذي نشرته صحف القاهرة في نوفمبر الماضي. جاء في التصريح: "لقد تطور العمل فى مصر حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979. فقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة إلى أكثر من شطر، لتعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، ولكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك فى معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشى فى هذا البلد". صحيح أن الدول تتآمر على بعضها البعض وتحاول اختراق الخصم وتفتيت وحدته، لكنه لا يجب أن نلوم الآخر بقدر ما نلوم أنفسنا، فضعفنا في الداخل هو الذي سمح لدوائر أجنبية باختراق أمننا القومي، وسمح لها بإستخدام البعض في الداخل والخارج لتحقيق مصالح تلك الدوائر وعلى رأسها إنهاك مصر وإشغالها بقضايا محلية وبفتنة طائفية تمنعها من إستعادة دورها الحضاري في المنطقة. وتزامن كل هذا مع فشل آخر في تنفيذ برامج تنمية اقتصادية تصل ثمارها لكل المصريين، وفشل في صنع سياسة خارجية تدافع فعلا عن مصالح مصر. وانشغلت مصر عما حدث ويحدث في دول عربية شقيقة، ولم تتعلم دروس الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان والسودان ونيجيريا وأبعاد الخصام بين السنة والشيعة في العراق وباكستان. فصل الكنيسة والأمن عن الدولة لابد أن تنتج المحن والمواقف العصيبة إرادة عمل مشتركة لمواجهة تداعيات الحادث. ومن هنا فالحل يجب أن يبدأ من جذور المشكلة وليس من أعراضها. ولهذا، أطالب بفصل الكنيسة عن الدولة، ورفع يد الدولة عن الأزهر، وأطالب بفصل الأمن عن الدولة، وفصل الحكومة عن الدولة. فلا يجب تصوير الحل على أننا ننادي بدولة مدنية تجاه الدولة الدينية. فالدولة إما أن تكون دولة أو لا تكون. والحكم الديني الذي ظهر في أوروبا لم يشكل دول بالمفهوم الشائع الآن، كما أن الخبرة الإسلامية لم تشهد مثل ذلك النوع من الحكم في الأساس. ما أقصده هنا هو أننا نرى الحل في دولة المؤسسات الحديثة التي لا تعادي الدين ولا تقصيه كمرجعية عليا لمن شاء، لأن الدين مكون أساسي من مكونات ثقافة المصريين.. نريد دولة لا تعمل على تديين المجال العام أو استغلال الدين في تحقيق مصالح بعيدة كل البعد عن الدين. دولة تستند إلى القانون والمواطنة، وتعمل مؤسساتها وحكوماتها من أجل مصالح كل فئات وطبقات المجتمع، وتتم مناقشة المشكلات المختلفة للمسلمين والمسيحيين –ومنها مسألة التمييز في الوظائف وبناء دور العبادة والأحوال الشخصية- داخل مؤسسات الدولة واستنادا إلى القانون وإلى قيم المواطنة والكفاءة وبعيدا عن نظام الحصص التي قد تزرع الطائفية وتعمقها. لا يجب تصور أن الحل يبدأ من القضاء على الخطاب الديني القائم، إذ لا يجب تحميل الحالة الدينية في مصر مسؤولية ما حدث، ففي اعتقادي الدين والمتدينون هم ضحية الحكومة وسياساتها، كما أن الخطاب الديني الإقصائي في الجانبين المسيحي والإسلامي هو نتاج طبيعي لضعف الدولة ومؤسساتها بالشكل التي تحدثت عنه سابقا. هو عَرَضٌ لمرض وليس المرض ذاته. إن تصويب مسار الخطاب الديني يحتاج إلى وقت ممتد وجهد مستمر وإلى مؤسسات واعية في مجال الثقافة والتعليم والتدريب، ولن تتوفر هذه المتطلبات إلا في دولة القانون والمؤسسات. أما الكنيسة فيجب أن تكف عن دروها السياسي، وتعود إلى دورها الروحي في إرشاد المسيحيين. والأزهر لابد أن يحرر من قبضة الحكومة ليقوم بدوره الديني في إنتاج خطاب ديني عصري بدلا من ترك الساحة لأنصاف المتعلمين والمتعصبين في الفضائيات وعلى منابر المساجد، ولابد أن يمارس الأزهر وظيفته الأصلية في إنتاج معرفة إسلامية عصرية وتخريج دعاة مستنيرين. إن غضب المصرييين، المسيحيين والمسلمين، لابد أن يتجه ليس نحو المناداة بتشريع قانون هنا أو هناك أو مناشدة الحكومة التوقف عن التمييز في الوظائف. لن يجدي كل هذا فسياسات الحكومة هي التي خلقت هذه المشكلات وبالتالي فالحل هو في إلتحام كل المصريين وتركيز مطالبهم على وضع دستور ديمقراطي جديد يقوم على المواطنة والمساواة والتعددية السياسية، دستور يمهد الطريق لانتخابات حقيقية تنتج حكومة وطنية منتخبة ومسؤولة. هذا النوع من الحكومات هو وحده القادر على التصدي للمشكلات القائمة وللاختراقات الخارجية. لابد أن يتجه غضب المصريين ليس إلى إقالة وزير هنا أو مسؤول هناك، وإنما إلى المطالبة بتنحي الحزب الحاكم ودخوله في حكومة انقاذ وطني مع كافة القوى الوطنية الأخرى لفترة انتقالية يتم خلالها تمهيد الطريق لتشكيل جمعية وطنية تأسيسية تتولى مهمة إعداد دستور ديمقراطي توافقي يقوم على نظام سياسي برلماني ومفهوم حقيقي للمواطنة وتعددية سياسية وحزبية حقيقية وقانون انتخابي قائم على القائمة النسبية. والعمل العام في دولة المؤسسات لابد أن يمارس في إطار الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وليس في الكنيسة أو المسجد، وبضوابط كثيرة. لابد أن يتجه غضبنا إلى المطالبة بحرية تكوين الأحزاب بأي مرجعيات كانت طالما تحترم الدستور والدولة والتداول السلمي على السلطة ولاتحتكر الدين، مع وضع ضمانات تحول دون احتكار فئات أو أسر معينة لهذه الأحزاب، قد يكون منها ضرورة وجود عدد من الأقباط والنساء والشباب في الهيئات العليا وفي أماكن متقدمة في القوائم الانتخابية لكل حزب. دولة المؤسسات تقتضي أيضا فصل الحكومة والنظام ومؤسساته المختلفة بما فيها مؤسسة الأمن عن الدولة. لايعرف الكثيرون أن الأصل هو أن الحكومة ليست هي الدولة حتى يحتكرها الحزب الحاكم ويعبث بها وبمؤسساتها الوطنية وبمستقبلها على النحو القائم، وإنما هي مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة التي على الأمن حمايتها. كما لا يعرف الكثيرون أن مؤسسة الأمن مؤسسة مدنية من المؤسسات الوطنية للدولة وليست من أدوات الحكومة أو النظام حتى يتم الزج بها في خصومات مع المسلمين والمسيحيين وإشغالها بقضايا وخلافات سياسية. ---------- * أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net