بعيداً عن الإبتذال والتزيد والمبالغة الممجوجة، عندما نذكر كلمة وطن. نجد بكل أسف وربما بكل بساطة، أن هذا التعبير تغيرت وإختلفت مضامينه باختلاف الزمن وتقدم العصور مع إن الوطن هو نفسه، حيث أن إجابة هذا السؤال الوجودى اليوم مغايرة تماماً لإجابته قبل خمسون عاماً، ولا تعرف أى الإجابات هى الأوفر حظاً لإختيارها طبقاً لمفاهيم الأجيال المتعاقبة أو حسب ما وصلنا من أغانى وأبيات شعرية قديماً وحديثاً تحاول التعبير عما يجيش بداخلنا. أرض، حدود، مكان، ولا حالة من الشجن.. طبقاً لمحمد فؤاد أم أنه وطنى الذى لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى.. طبقاً لأحمد شوقى أمير الشعراء؟ تبدو حالة الشجن عامل مشترك كلما أوغلنا فى الحديث عن الوطن، ولا تعلم يقيناً ليه؟ هل الوطن دائماً يرتبط بالحزن أو بحالة الفقد للفرحة والأمل والأمان المفترض؟ أم أنه فقدان لأى شئ والسلام؟ غالباً هو كده. وفى محاولة لاستلهام بعض الحالات من بعض الدول لو سألناهم يعنى إيه كلمة وطن؟ الشباب والأطفال فى مخيمات اللاجئين على حدود سوريا والعراق وتركيا مثلاً، ماذا تعنى لهم كلمة وطن أكثر من أربع حيطان ورحمة من البرد والمطر وأى لقمة نضيفه. آدى نموذج. طيب لو سألت شباب مصرى من اللى سافروا خلال الكام سنة اللى فاتوا خارج مصر لسبب أو لآخر ماذا تعنى لهم نفس الكلمة، ستسمع إجابة تتكلم عن فرصة عمل ومعاملة آدمية بعيداً عن إستفزازات أجهزة الدولة بالإضافة لأنهم يستطيعون الخروج فى مظاهرات وقتما شاءوا دون قانون لتنظيم التظاهر. ومن هذين النموذجين يمكننا أن نقول إن الوطن هو أن تستطيع إستكمال كل نواقصك ومتطلباتك الأساسية حتى ولو كانت حق طبيعى لك ولكنها لظروف معينة غير متاحة الآن. يعنى الوطن إنك تعيش فى بيت آمن وتاكل وتشرب وتشتغل وتربى عيالك بس؟! بكل تأكيد لأ. لأن ذلك هو ما سوف تحصل عليه أو من المفترض حصولك عليه فى أى مكان طالما أنت على قيد الحياة. مفهوم الوطن يكتمل بأحاسيس داخلية ومشاعر يصعب توصيفها أو التعبير عنها بأمور حياتية عادية.، تلك الأحاسيس ليست واردة فى قواميس حثالة البشر ممن يقولوا أنه ليس إلا حفنة من تراب عفن، يتحدثون عن الوطن. لذلك سنستبعد هؤلاء المرضى والمعاقين ذهنياً من كشف حساب الوطن والمواطنة باعتبارهم خوارج هذا العصرومنافقيه. هنا ياصديقى سأعود لنماذج الستينات وما أدراك ماالستينات، عندما كانت فورة القومية العربية وأحاسيس الإنتماء تتأجج فى الصدور، عندما كنا نسمع الأغانى الوطنية فنرتعش ونحس بقشعريرة فى الجسد وتنميل فى مؤخرة الدماغ بشكل طبيعى ودون أى إفتعال، عندما كنا ندخل الجيش ونحن فى أيام الحروب ونتدرب على الرماية والقفز بالسلاح ونحن نهتف الله أكبر وتكاد قلوبنا تقفز خارج أقفاصنا الصدرية من فرط الحماس والشوق للقاء العدو دفاعاً عن أوطاننا وإعلاء لعلم مصر ونصرة قضية العروبة، وكنت لو سألت آنذاك يعنى إيه كلمة وطن ستجد الإجابة باكية مع ذكر إسم الوطن مصر التى أفتديها بروحى أغلى إسم فى الوجود مصر بشعور حقيقى ودون إفتعال، لم تعد تلك الأحاسيس موجودة لدى الأجيال التالية لأسباب كثيرة تتعلق بتغير الحالة العامة والمزاج للبلاد وحالات الإعفاء من الخدمة العسكرية للشباب، وتوارى نعرة القومية العربية واختلاف كاريزما الزعامة الوطنية التى تقود أحاسيس وتوجهات المواطنين فبعد أن كانت قضية فلسطين والقومية العربية ومصر كقلب هذه الأمة العربية والجيش المصرى وشرف الخدمة فيه والحروب المقدسة هى المحرك الأساسى لكل مشاعر الشباب والرجال فى مصر. أصبحت تلك المشاعر بعد ثلاثون عاماً تختلف كلية حيث إستبعدت الحروب وفعاليات النضال العربى من أجندات تفكير المواطنين وحلت محلها تساؤلات ليست لها أجوبة تتعلق بحقوق المواطنين ووظائف الشباب والمساواة بين الجنسين وما إلى ذلك من أمور حياتية وكأنما هذه الأمور لم تكن قبل ذلك ضرورية وملحة. الحقيقة أنها مطالب حقيقية ومنطقية ولكن الفكرة ان الدماغ كانت زمان منشغلة بقضايا أخرى أهم كرست لمفاهيم الوطن والوطنية والإنتماء. وبعد أن إختفت دواعى هذه التوجهات الوطنية لإبتعاد فكرة الحرب من أساسه.. أصبحت المساحات العقلية الخالية والمعدة لإستقبال أية مفاهيم جديدة ومستحدثة.. مهيئة وجاهزة للتفاعل والإيمان الفورى بكل ماعدا فكرة الوطن وحب الوطن فرض عليا ووطنى حبيبى الوطن الأكبر، وما إلى ذلك من تداعيات غرام الوطن التى أصبحت اليوم تثير السخرية والتريقه وتطلق الإفيهات والقفشات الكوميدية ليس أكثر. اليوم وقد أصبحت الحرب فكرة واردة حتى لو كانت على الإرهاب وداعش والإخوان وغيرهم من أنطاع الزمن الردئ. هل يعنى ذلك تنامى أفكار وأحاسيس الوطنية والفداء وحب الوطن من جديد؟! بمعنى آخر هل نحن بحاجة إلى حروب مستمرة لكى نفهم معنى كلمة وطن؟ وهل يعنى ذلك أن السويسرى مثلاً اللى عمره ما حارب لا يعلم يعنى إيه كلمة وطن؟!