عقب وفاة الرسول الكريم استقلت السيدة عائشة بالفتوى فى خلافة والدها الصديق، ولما مات أقامت صاحبة الإفتاء النوح والنحيب، فنهاها عمر بن الخطاب، ولما تولى الخلافة منعها هى وزوجات النبى من مغادرة المدينة حتى للحج والعمرة، تنفيذًا لتعليمات الرسول القرآنية، ولما كانت سنَتُه الأخيرة سمح لها بالحج مع عدد من زوجات الرسول، تحت رعاية عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، لكن هذا التضييق لا يعنى أن عمر انتقص من دور أو مكانة عائشة، بل ميّزها بمخصصات مالية أعلى من بقية أمهات المؤمنين بألفى درهم، وثبتها فى الفتوى كما كانت فى عهد أبيها، ولما طعنه المجوسى أرسل إلى عائشة يطلب دفنه إلى جوار الرسول داخل حجرتها، ووافقت تقديرًا له، فقد كانت تهابه لشدته فى الحق، وجاءت خلافة عثمان، وظل دور عائشة كما كان، واستمر استقلالها بالفتوى. ولم تتيسر روايات كثيرة عن تغير علاقتها بالخليفة، وكانت فى العموم علاقة إيجابية، حتى إن صاحبة الإفتاء لم تتدخل فى أزمة تعطيل عثمان لحد القصاص من عبيد الله بن عمر، بعد اعترافه بقتل الهرمزان وسيدة أخرى بلا ذنب، ولما أكثر الناس فى دم الهرمزان، صعد عثمان المنبر، فخطب قائلًا: ألا إنى وليت دم الهرمزان وتركته لدم عمر . فقام المقداد بن عمرو، وقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله ، وقال علىّ لعثمان: أرى أن تقتله . لكن عثمان رفض، وأخرجه إلى الكوفة، حيث أقطعه موضعًا نُسب إليه كويفة ابن عمر ، بل إن عائشة روت فى تلك الفترة أحاديث عن الرسول تعلى من أخلاق ومقام عثمان، وأشهرها قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): .. ألا أستحيى من رجل، والله إن الملائكة تستحيى منه . لكن كيف انقلبت العلاقة من الود إلى العداء والتحريض؟ ولم تنقل لنا روايات المؤرخين موقفًا للسيدة عائشة (وهى صاحبة الإفتاء) من تعطيل الخليفة الراشد الثالث لحد القصاص من ابن الخليفة الثانى، الذى اعترف بالقتل. وحسب الرواة فقد كان حكم عثمان فى هذه الفترة يمر بمرحلة رخاء واسترخاء بعد تشدد الفاروق فى تطبيق سياسته الرامية إلى العدل الاجتماعى، ويقول ابن قتيبة الدينورى عن تلك الفترة كان عثمان أحبَّ إلى الناس من عمر (رضى الله عنهما)، فقد كان عمر شديدًا، ضيَّق على قريش أنفاسَها ، فلما وليهم عثمان، كان رجلًا ليِّنا، وكان يخطب فيقول: أيها الناس، اغدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافية، اغدوا على كسوتكم، فتقسم بينهم.. يا معشر المسلمين، اغدوا عن السمن والعسل.. اغدوا على الطيب.. فلم يزل المال متوفرًا، حتى لقد بيعت الجارية بوزنها ورقًا، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار، وبيع البعير بألف، والنخلة الواحدة بألف . هكذا أدى الانفتاح العثمانى إلى نوع من الرخاء وبحبوحة العيش فى السنوات الأولى، وكانت عائشة تخرج للحج والعمرة بإرادتها ومن غير الرجوع للخليفة، وكذلك بقية الصحابة وكبار التجار الذين منعهم عمر عن ذلك فى عهده، ولكن الحال لم يستمر طويلًا على ذلك، ففى النصف الثانى من خلافة عثمان انقلبت الأمور، وزادت الشكاوى، وتذمر كثيرون وبينهم عائشة، رغم أن عثمان كان يذكرهم بما هو عليه من لين، وما كان عليه عمر من شدة تجبر الناس على الطاعة، فيقول لهم: لقد عبتم علىَّ أشياء ونقمتم أمورًا قد أقررتم مثلها لابن الخطاب، لأنه قمعكم ولم يجترئ أحد يملأ بصره منه، ولا يشير بطرفه إليه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم . وينقل لنا اليعقوبى وابن أعثم أن عثمان وعائشة نشأت بينهما منافرة، وذلك بعد أن نقصها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب . ولم تنته تحولات السيدة عائشة فى خلافة سيدنا عثمان، وللحديث بقية.