كلما انفتح باب الجحيم فى ليبيا تذكَّر العامة والخاصة اسما واحدا، القذافى. فقد ارتبط اسم العقيد الليبى، معمر القذافى، بليبيا طوال 42 عاما هى سنوات حكمه لهذا البلد العربى الذى أراده القذافى إفريقيا خالصا فى لحظة من لحظات قراراته وأفكاره الصادمة. بعيدا عن شخصية القذافى المثيرة للجدل، ترك الرجل بعد سقوط نظامه بلدا مهلهلا يعانى إرثا من المشكلات والأزمات التى تهدّد وحدته وتماسكه. وفى ليبيا تلعب القبائل دورا رئيسيا فى المجتمع، وتعدّ العصبيات القبيلة هى الانتماء الأول لدى الليبيين، الأمر الذى جعل انشقاق تلك القبائل عن نظام القذافى هو السبيل الوحيد لخلعه دون تدخل عسكرى خارجى، لكن هذا لم يحدث بطبيعة الحال بسبب سياسات القذافى، لينتهى الأمر بضربات جوية لقوات حلف الناتو . فطن القذافى مبكرا إلى أهمية ملف القبائل وعمدَ إلى تصعيد أبناء قبيلته القذاذفة إلى المناصب العليا والحيوية فى الدولة والجيش لضمان ولائهم له، بالإضافة إلى علاقات النسب والمصاهرة التى تربطه بعدد من زعماء القبائل الأخرى، إلا أن ذلك المبدأ بدأ يهتزّ بشدة منذ اندلاع الاحتجاجات الليبية فى 17 فبراير 2011، إذ تحول ولاء عدد من زعماء القبائل بعيدا عن القذافى بعد استخدامه القوة المفرطة فى قمع الاحتجاجات والتظاهرات المعارضة له، والتى بدأت من مدينة البيضاء وانتشرت فى مدن الشرق الليبى التى باتت خارج سيطرة القذافى وتولى زمامها الثوار. سيادة دور القبيلة فى ليبيا على دور الجيش مرجعها أن القذافى تعمّد بعد وصوله إلى السلطة إضعاف الجيش الليبى، خوفا من تمرد أحد قادته عليه، كما فعل هو شخصيا عام 1969 عندما قاد تمردا على نظام الملك إدريس السنوسى، منتهزا فرصة وجود الملك السنوسى فى رحلة خارج البلاد. وفى مقابل إضعاف الجيش بشكل عام، عهد القذافى إلى اثنين من أبنائه الذكور هما خميس والساعدى برئاسة كتائب قتالية فى الجيش الليبى، حوَّلاها إلى كتائب خاصة على مستوى عالٍ من التدريب والتسليح، كما عهد إلى مقربين منه أمثال عبد الله السنوسى برئاسة الأجهزة الأمنية لضمان ولائهم له. أدار القذافى خلال سنوات حكمه لعبة التوازن بين القبائل بدهاء، إذ إنه أدرك أن اتحاد تلك القبائل ضده خطر على بقائه فى السلطة، فعمد إلى بث الخلافات بينها عملا بمبدأ فَرِّقْ تَسُدْ . وخلال الثورة على نظامه عمد القذافى إلى تسليح القبائل الموالية له لدعم نظامه فى مواجهة القبائل التى أعلنت دعمها لإسقاطه. انتهى عهد القذافى وسط الفوضى والاضطراب، والصورة التى رسمتها ليبيا -حينذاك- كانت تتشكَّل من ميليشيات مسلحة تفرض قانونها بالقوة وتتصادم فى ما بينها، علاوة على التصفيات الجسدية السريعة، ومنها تصفية القذافى نفسه، مرورا بالرغبات الانفصالية للمنطقة الشرقية، والصراعات بين القبائل، والمصادمات ذات الطابع العرقى أو الحملات العقابية ضد المهاجرين. وبدت ليبيا كبلد يتسلح وينقسم وفق شروخ عشائرية وقَبَلية أو جهوية، كما بدا أن غياب السلطة المركزية والانكفاء نحو الهويات العشائرية أو الدينية وعوامل التجاذب المتنوعة، ستكون عقبات تقف حائلا ضد إعادة بناء دولة قانون، بل ببساطة أى دولة مستقرة. اتخذ القذافى إجراءات عدة لتعزيز مفهوم القبلية، ومنها قانون 1990 الذى منح كل قبيلة الملكية الحصرية للأراضى التى كانت مشاعا لها قبلا، بينما هى أصبحت جزءا من الحيز العقارى المدينى. وفى المقابل، كانت السلطة تتمركز بشدة، فقد أدى تهميش الجيش إلى تجزىء الأجهزة الأمنية، لكن فى الوقت نفسه إلى توسيع هائل لعددها، وإلى تسييج أمنى غير مسبوق للبلاد، لقد كان هناك نحو 200 ألف عسكرى لسكان لا يتعدون الستة ملايين. عام 1976 لم يكن قد تبقى من الأعضاء ال12 لمجلس قيادة الثورة، الذين كانوا ينتمون إلى فئات مضطهَدة أو مُهمَّشة من مختلف القبائل، إلا أربعة، وجرى استبدال الجميع بأناس من سرت ومن قبيلة القذافى نفسه، وقد عزز الريع النفطى هذه الوجهة، فهو بقى ملكية عائلية، ثم عززها الحصار فى التسعينيات، وكذلك الصدمة النفطية المضادة، أى انخفاض الريع، مما قوَّى أهمية المضاربة العقارية. ونشأت لجان التطهير ومكافحة الفساد على هذا الأساس، وكان بإمكانها مصادرة العمليات التجارية والعقارية غير المُجازة وقمع شبكات الأعمال المستقلة، كما حدث مع مقاولى درنة. هكذا ارتفع معا، كالعادة، منسوب القمع والنهب، واشترك هذا مع تلزيم استخدام العنف عبر وحدات النخبة التى يديرها أبناء القذافى الثلاثة ووحدات المرتزقة (الكتيبة الإسلامية الإفريقية)، أما على المستوى المحلى فقد مُنح هذا التلزيم للتراتبية القبلية. المواجهات التى تصنَّف بأنها قبلية وتتصدَّر المشهد اليوم ليست بالأمر الجديد، لا بشكلها، ولا بخيوط الانقسام التى تفعَّل فيها. عام 2008، وقبل ثلاث سنوات من سقوط القذافى، حدثت مواجهات دموية فى الكُفرة بين قبائل التبو والزوايا، وهى قبائل يعبِّر تمركزها فى المناطق الحدودية عن أهمية السيطرة على التجارة العابرة إلى الحدود، موضع التنافس الأبدى، كما أن قمع البربر كان ممارسة سائدة منذ وصول القذافى إلى السلطة. راجت العديد من حالات الصدام القبلى على امتداد العقد الأخير لدرجة أقلقت النظام، الذى وجد نفسه مضطرا إلى البحث عن تقارُب مع عدوّه التاريخى (الحركة السنوسية)، بسبب طابعها العابر للقبائل والمجموعات العرقية، فى حين كانت أشكال العنف تتضاعف. كانت تلك الحوادث منذ ذلك الوقت تشير إلى محدودية أشكال الهيمنة المبنية على الولاءات غير التوسطية والمجزَّأة، وإنْ فى سياق ريعىّ. وهى، بالتوازى مع ارتفاع وتيرة حركات الاحتجاج المدنية، الوجه الآخر للضعف الضارب فى البناء المتسلط الذى أسسه القذافى.