الكوميديا السوداء تفرض نفسها على حالة الحداد، هى حيلة دفاعية للتغلب على الحزن، وربما ممارسة النقد بروح مجروحة وموجوعة، لكنها فى النهاية تبقى تعبيرا موجزا عن مشهد يسير فى طريق الموت ولا يجد غيره. بينما تتعدد أشكال الموت وحوادثه، وتتفنن فى تسفير الضحايا إلى أبديتهم، بالقتل والخنق والحرق، بالخرطوش والسقوط من أعلى، والتمزيق بالعبوات الناسفة وقذائف الهاون، ربما يأتى يوم نتعجب فيه من موت أحدهم على سريره بعد انقضاء أجله، هذه الميتات التقليدية الطبيعية قد تبدو مستقبلا مستغربة، لأن -وقتها- الموت التقليدى سيكون موت البغتة المرتبط بالجريمة أيا كان المجرم فيها. هل تعرف إلى أين يقودنا ذلك؟ ببساطة إلى رفع كلفة العيش فى هذه البلاد إلى الحد الأقصى من المخاطر، كلفة كل شىء، السياسة، التظاهر، تشجيع الكرة، الهجرة، السفر داخليا على طرق رديئة أو بحافلات متهالكة، الماء والهواء والطعام، حتى السير المستكين إلى جوار الحائط لم يعد مأمون الجانب، ربما انفجرت عبوة ما مستترة داخل الحائط أو على مقربة منه. ضع نفسك ببساطة فى مكان أب لشاب مراهق، يشاهد مَن هُم مثله يموتون هكذا من أجل دخول مباراة لكرة القدم، ويتساءل إن كان أى اهتمام أو محاولة للفرح فى هذا الوطن ثمنها الموت، كيف يمكن أن تستقيم الحياة فيه؟ وهو الوطن الذى يقول السياسيون إنهم أنقذوه من مصير الحرب الأهلية. أىّ إنقاذ ونشرة الأخبار كما تتحدث عن العشرات الذين ماتوا فى حرب معلنة معروف أطرافها، هى ذاتها التى تذيع مقتل عشرات بسبب الارتباك والتواطؤ واللامبالاة فى مباراة كرة قدم، وبسبب الإهمال فى حادث سير، وبسبب الاستهداف المرتبط بالتقصير الفادح فى هجوم مسلح، وبسبب المرور العابر دون استهداف مسبق على موقع عبوة ناسفة، وبسبب الموت غرقا فى مركب حاول النجاة من كل ذلك؟ إن كانت الأولى حربا أهلية، فهذه حرب عشوائية، لا تعرف أطرافها ومَن منهم مع مَن، فإذا كانت السلطة تشكو من إرهاب يصطاد الناس، فلماذا تساعده بتقصيرها؟ ولماذا تصطاد هى الناس بقصد ومن دون قصد، بتواطؤ وفشل وإهمال وسوء تقدير؟ هذا الأب كيف يربى المراهق الذى عنده؟ بأى شىء ينصحه؟ هل يطلب منه أن يكون مواطنا إيجابيا مهتما بقضايا بلده، ويعرف أن له رأيا يمكن أن يعبر عنه بتحضر؟ وهل أعفى تحضّرُ شيماء الصباغ، والورد الذى كانت تحمله فى يدها، روحَها من أن تزهق برصاص غادر؟ هل يحفزه أن يترك خطر السياسة ولا ينشغل بغير الرياضة، فيأتيه يوما قتيلا متهما بالشغب والبلطجة واستحقاق الموت كما جاء غيره من شباب لم تكن فى حياتهم قضية غير تشجيع فرقهم الرياضية؟ هل يحفزه على التجنيد فيموت دون قتال فى كمين يحرسه ويجرى تفجيره فى كل مرة بطريقة مشابهة للمرة السابقة؟ أم يتركه لجماعات تحفزه على أن يقتل باسم الرب ويموت منفجرا فى الآخرين وهو يحسب أنه يحسن صنعا؟ أم يتركه للهجرة والغرق؟ وكيف يحميه من العبوات العابرة، ومن الطرق الرديئة، والقطارات المهترئة، والمياه الملوثة، والخدمة الصحية القاصرة، والمرض المتوحش؟ لماذا يضيق العيش حتى ارتفعت أسهم الموت على أسهم الحياة؟ ولماذا بات المصرى ميّتًا فى جميع الأحوال حتى لو سار بجوار الحائط أو أغلق عليه بابه؟ لأن حق الحياة ضائع، لا تفهم الدولة بأجهزتها أن واجبها الأول أن تحمى الحياة، فيكون ذلك حاضرا فى ذهنها وهى تؤمن جنودها وضباطها الذين يقاتلون الإرهاب، وهى تفضّ التجمعات وتنظم التدفقات البشرية، وهى تبنى الكبارى والطرق ومحطات المياه، وهى تطبق القانون على المخالفين والملوثين والمستهينين بحياة الآخرين، ولا يفهم سدنة الدين والتدين أن الدين يعنى الحياة وليس الموت، وأن إرادة الحياة ومساعيها ونضال تجويدها والحفاظ عليها هى مقصد الدين الأهم. حتى نقرّ بالأفعال أن الحياة حق وحمايتها واجب لا شىء يسبقه، ومحاسبة كل مستهين بها أو مقصر فى الذود عنها، أو متواطئ وفاسد يتسبب فى إهدارها، سيبقى كل مواطن مصرى ميّتًا محتملاً جدًّا، ولاحقًا وشيكًا بمن سبق.