بعد قليل.. إعلان حركة تنقلات وترقيات وزارة الداخلية 2025    تنسيق الجامعات 2025.. 104 آلاف طالب يسجلون لأداء اختبارات القدرات    وزير التعليم العالي يفتتح جامعة كفر الشيخ الأهلية: برامج حديثة تواكب سوق العمل    بالأسماء.. ننشر القائمة الكاملة لأوائل الشهادة الثانوية الأزهرية بالقسم العلمي    حصاد الأنشطة الطلابية بجامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية (صور)    محافظ القاهرة يتفقد مصانع الأسمرات (صور)    وزير الإسكان يتابع مشروع إنشاء القوس الغربي لمحور اللواء عمر سليمان بالإسكندرية    وزيرة التخطيط تشارك في اجتماع وزراء التنمية لمجموعة العشرين    زلزال يضرب إندونيسيا بقوة 6 درجات على مقياس ريختر    بوليتيكو: خلاف بين ستارمر ووزارة خارجيته بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية    الاتحاد الإفريقي يرحب بإعلان ماكرون نيته الاعتراف بدولة فلسطين    الكرة الطائرة، تاريخ مواجهات مصر وإيطاليا في بطولات العالم للشباب    صورة في القطار أنهت معاناته.. والد ناشئ البنك الأهلي يروي عبر في الجول قصة نجله    خبر في الجول - محمد إسماعيل يغادر معسكر زد لإتمام انتقاله ل الزمالك    بالأسماء، أوائل الشهادة الثانوية الأزهرية بالقسم العلمي (صور)    مدير صندوق مكافحة الإدمان: 11 ألف متردد استفادوا من خدمات مركز العزيمة بمطروح خلال 5 سنوات    سليم سحاب ناعيا زياد الرحباني: رفيق دربي في عالم الموسيقى    علاج النحافة، بنظام غذائي متوازن وصحي في زمن قياسي    سعر الخضراوات اليوم في سوق العبور 26 يوليو 2025    سعر الخضار والفواكه اليوم السبت 26-7-2025 بالمنوفية.. البصل يبدأ من 10 جنيهات    مصلحة الضرائب تصدر قرار مرحلة جديدة من منظومة الإيصال الإلكتروني    معسكر دولي لمنتخب الطائرة في سلوفينيا استعدادًا لبطولة العالم    سيراميكا يواجه دكرنس غداً فى رابع ودياته استعداداً للموسم الجديد    إنتر ميامي يتعاقد مع صديق ميسي    المكتب الإعلامي الحكومي في غزة يحذر من خطر وفاة 100 ألف طفل خلال أيام    كمبوديا تغلق المجال الجوي فوق مناطق الاشتباك مع تايلاند    طبيب سموم يكشف سبب وفاة الأطفال ال6 ووالدهم بالمنيا.. فيديو    لوموند: قمة بكين تكشف ضعف أوروبا الكبير في مواجهة الصين    رئيس لبنان: زياد الرحباني كان حالة فكرية وثقافية متكاملة    يوم الخالات والعمات.. أبراج تقدم الدعم والحب غير المشروط لأبناء أشقائها    إعلام فلسطينى: الاحتلال يستهدف منزلا غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة    ماذا قال أحمد هنو عن اطلاق مبادرة "أنت تسأل ووزير الثقافة يجب"؟    سميرة عبد العزيز في ضيافة المهرجان القومي للمسرح اليوم.. وتوقيع كتاب يوثق رحلتها المسرحية    سوريا.. الدفاع المدني يجلي 300 شخص من السويداء إلى دمشق    الصحة: مصر تستعرض تجربتها في مبادرة «العناية بصحة الأم والجنين» خلال مؤتمر إفريقيا للقضاء على الإيدز والتهاب الكبد B والزهري    الصحة: دعم المنظومة الصحية في محافظة البحيرة بجهازي قسطرة قلبية بقيمة 46 مليون جنيه    غينيا تتجاوز 300 إصابة مؤكدة بجدري القرود وسط حالة طوارئ صحية عامة    "تأقلمت سريعًا".. صفقة الأهلي الجديدة يتحدث عن فوائد معسكر تونس    ليلة أسطورية..عمرو دياب يشعل حفل الرياض بأغاني ألبومه الجديد (صور)    من رصاصة فى القلب ل"أهل الكهف".. توفيق الحكيم يُثرى السينما المصرية بكتاباته    أسامة قابيل: من يُحلل الحشيش يُخادع الناس.. فهل يرضى أن يشربه أولاده وأحفاده؟    "قصص متفوتكش".. محمد صلاح يتسوق في هونج كونج.. نداء عاجل لأفشة.. ورسالة إمام عاشور لزوجته    بالأرقام.. الحكومة تضخ 742.5 مليار جنيه لدعم المواطن في موازنة 25/26    وزير الري يتابع مشروع مكافحة الحشائش المائية في البحيرات العظمى    القضاء الأمريكى يوقف قيود ترامب على منح الجنسية بالولادة    بعد ظهور نتيجة الثانوية 2025.. وزارة التعليم: لا يوجد تحسين مجموع للناجحين    إصابة شاب في مشاجرة وتسمم مزارع بحوادث متفرقة في سوهاج    أجندة البورصة بنهاية يوليو.. عمومية ل"دايس" لسداد 135 مليون جنيه لناجى توما    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    "الحشيش حرام" الأوقاف والإفتاء تحسمان الجدل بعد موجة لغط على السوشيال ميديا    بالأسماء.. مصرع طفلة وإصابة 23 شخصًا في انقلاب ميكروباص بطريق "قفط – القصير"    وزير الأوقاف يحيل مجموعة من المخالفات إلى التحقيق العاجل    الأوقاف تعقد 27 ندوة بعنوان "ما عال من اقتصد.. ترشيد الطاقة نموذجًا" الأحد    موعد إجازة المولد النبوي 2025 الرسمية في مصر.. كم يومًا إجازة للموظفين؟    «الداخلية» تنفي «فيديو الإخوان» بشأن احتجاز ضابط.. وتؤكد: «مفبرك» والوثائق لا تمت بصلة للواقع    بعد «أزمة الحشيش».. 4 تصريحات ل سعاد صالح أثارت الجدل منها «رؤية المخطوبة»    «لو شوكة السمك وقفت في حلقك».. جرب الحيلة رقم 3 للتخلص منها فورًا    إحباط تهريب دقيق مدعم ومواد غذائية منتهية الصلاحية وسجائر مجهولة المصدر فى حملات تموينية ب الإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إحساس النهاية


أتذكرُ، دونما ترتيب محدد:
- باطن رسغ لامع؛
- الدخان المتصاعد من حوض مبلل عند إلقاء مقلاة ساخنة فيه علي سبيل المزاح؛
- لطخات السائل المنوي تدور في فتحة الحوض، قبل أن تتدفق في المصرف بطول البيت كله؛
- نهر يتدفق في مجراه بلا معني، فيما تضيء أمواجَه اضواءُ المصابيح التي تلاحقه؛
- نهر آخر، عريض وقاتم، ويختفي اتجاه أمواجه تحت الريح القوية التي تحرك سطحه؛
- مياه الاستحمام التي بردت خلف باب مغلق.
هذه الأخيرة ليست شيئا رأيته فعليا، لكنّ ما تنتهي إليه الذاكرة ليس بالضرورة هو ما قد شهدته بالفعل.
نحن نحيا في الزمن - الذي يقبض علينا ويُشكّلنا - لكني أتصور أني لم أفهم ذلك ولم أشعر به أبدا. لست أعني بكلامي النظريات المتعلقة بالزمن، كيف ينعطف وكيف يكرر نفسه، أو أنه يوجد في مكان آخر بشكل موازٍ. لا، إنما أعني الزمن العادي، المتكرر يوميا، والذي تؤكد لنا ساعات اليد والحائط مروره بانتظام: تك تُك، كليك كلوك. هل يوجد شيء قابل للتصديق أكثر من الحقيقة المستهلكة؟ وبعد كل شيء هل نحتاج سوي للقليل من الألم أو البهجة لندرك مدي طواعية الزمن. بعض الانفعالات تسارع إيقاعه، وبعضها يبطئه؛ أحيانا ما يبدو مفقودا - حتي نقطة معينة يصير فيها مفقودا فعلا، ولا سبيل لاستعادته.
لست مهتما تماما بأيام الدراسة، ولا أشعر بأي حنين نحوها. لكن المدرسة هي المكان الذي بدأ فيه كل شئ، لذا أجدني بحاجة للعودة بشكل مختصر لبعض الحوادث التي نمَت وصارت حكايات، ولبعض الذكريات التقريبية، والتي تكفل الزمن بتحويلها لحقائق، وإذا لم أكن قادرا علي التيقن من الأحداث مرة أخري، فإنني قادر علي الأقل أن أتيقّن من الانطباعات التي تركتها هذه الحقائق. هذا أقصي ما يمكنني السيطرة عليه.
كنا ثلاثة، وصار هو رابعنا. لم نكن نتوقع أن نضمّ أحدا لمجموعتنا المغلقة علي نفسها: كانت الشلل والمجموعات قد تكونت من زمن طويل، وكنا نتأهب للتفكير في خروجنا من المدرسة إلي الحياة. كان اسمه أدريان فِن، صبي طويل وخجول يحتفظ بعينيه في الأرض وبما في رأسه لنفسه. في أول يوم أو يومين، لم يلفت انتباهنا كثيرا: في مدرستنا لم تكن هناك حفلة ترحيب، هذا بغض النظر عما يقابلها من مراسم التأديب المحتملة. سجلنا وجوده ولبثنا ننتظر.
كان المدرسون أكثر اهتماما به منّا. كان عليهم التحقق من ذكائه وانضباطه، وتقدير مدي ما تعلمه من قبل، وإذا ما كان سيثبت أنه "خامة صالحة للتعليم". في اليوم الثالث للفصل الدراسي في الخريف، كان لدينا حصة تاريخ مع المعلم جو هنت الكبير، مرتديا بذلته ذات القطع الثلاث اللطيفة، والذي كانت طريقته في الحفاظ علي النظام تعتمد علي قدر لا يستهان به من الملل.
"حسنا، لعلكم تذكرون أنني طلبت أن تقوموا ببعض القراءة التحضيرية حول فترة حكم هنري الثامن" نظرتُ أنا وألكس وكولن لبعضنا البعض، آملين ألا يسقط السؤال فوق رأس أحدنا. "من يحب أن يتقدم ويصف لنا ذلك العصر؟" أدركَ الموقف من أعيننا التي كانت تتحاشاه فقال "حسنا، مارشال، ربما يمكنك أن تصف لنا فترة حكم هنري الثامن؟"
كان شعورنا بالارتياح أكبر من فضولنا، لأن مارشال كان بليدا حذرا ليس لديه أي شيء من ابتكارية الجهل الحقيقي. كان يبحث عن التعقيدات الكامنة المحتملة في السؤال قبل أن يعين الإجابة الفعلية:
"كان هناك اضطرابات، سيدي"
انفجرت ضحكات غير قابلة للسيطرة. حتي هنت نفسه ابتسم رغما عنه.
"هل يمكنك أن تسهب قليلا في إجابتك؟"
أومأ مارشال برأسه موافقا، فكر لفترة أطول قليلا، وقرر أن الوقت ليس مناسبا للحذر. "يمكنني أن أقول أنه كان هناك اضطرابات عظيمة، سيدي"
"فِن، إذن، هل يمكنك أن تحدثنا عن هذه الفترة؟"
كان الصبي الجديد في الصف الأمامي مباشرة لي، علي اليسار. لم يكن قد أظهر أي رد فعل علي حماقات مارشال.
"ليس كما ينبغي، سيدي. لكن هناك عبارة تنطبق علي أي حدث تاريخي - بما فيها اندلاع الحرب العالمية الأولي، مثلا - وهي أن شيئا ما حدث "
"فعلا؟ حسنا، هذا ينهي مهمتي، أليس كذلك؟" بعد عدة ضحكات متملقة، التمس جو هنت الكبير العذر لتكاسلنا بعد العطلة، وزودنا بعدة معلومات عن هنري الثامن، الجزار الملكي متعدد الزوجات.
في الفسحة التالية، ذهبت إلي فِن. "أنا توني وبستر" نظر نحوي بحذر "كان ردك جيدا علي هنت" بدا وكأنه لا يعرف ما أعنيه "حول أن شيئا ما حدث"
"أوه، نعم. كنت محبطا نوعا ما أنه لم يتخذ أي رد فعل"
لم يكن هذا ما يفترض أن يجيبني به.
أتذكرُ تفصيلة أخري: ثلاثتنا، وعلي سبيل تأكيد عمق ارتباطنا، كنا نرتدي الساعات ووجهها ناحية باطن الرسغ. كان أمرا متكلفا، بالطبع، لكنه ربما كان يعني الكثير. كان يجعل الزمن يبدو مثل شيء شخصي، أو حتي سريّ. توقعنا أن يلاحظ أدريان الإشارة، وأن يرتدي الساعة مثلنا؛ لكنه لم يفعل.
لاحقا في ذلك اليوم - أو ربما في يوم آخر - كان لدينا حصّتي لغة إنجليزية مع فيل ديكسون، وهو مدرس شاب جاء لتوه من كامبردج. كان يحب استخدام النصوص المعاصرة، وإلقاء الأسئلة المفاجئة، مثل " الميلاد والتزاوج والموت -هذا كل ما يتحدث عنه ت. إس. إليوت. هل من تعليق؟" وأخذ ذات مرة يقارن بين البطل الشكسبيري وكيرك دوجلاس في فيلم سبارتاكوس. أتذكر كيف، ونحن نتناقش ذات مرة حول أشعار تيد هيوز، أخديهز رأسه بطريقة متحذلقة ويغمغم ساخرا "بالطبع، لابد أن نفكر جميعا ما الذي سيحدث لو نفد ما لديه من حيوانات" كان في كثير من الأحيان يخاطبنا كالكبار، وكنا بالطبع، نحبه جدا. ذلك المساء، كان يمسك قصيدة بلا عنوان، أو تاريخ أو اسم مؤلف، أعطانا عشر دقائق لنقرأها ثم بدأ يسألنا.
"هل نبدأ بك، فِن؟ هل يمكنك أن تقول لنا، ببساطة، عم تتحدث هذه القصيدة؟" نظر فِن نحوه قائلا "إيروس وثانتوس، سيدي"
"امممم، استمر"
"الجنس والموت..." واصل فِن كلامه، كأنه ليس أغبياء الصف الأخير فحسب من لا يفهمون اليونانية.
"أو الجنس والموت، لو كنتَ تفضل ذلك. المفهوم الحسّي، في أي حالة وصراعه مع مفهوم الموت وما ينشأ عن هذا الصراع، سيدي"
كنت أبدو أكثر انبهارا مما كان ينبغي لي، بحسب افتراض ديكسون.
"وبستر، هل يمكنك أن توضح لنا ذلك أكثر"
"لقد ظننتُها قصيدة عن حظيرة البوم، سيدي"
كان هذا واحدا من الاختلافات بيننا وبين صديقنا الجديد. كنا نبدو حمقي، حتي ونحن جادّون، بينما يبدو هو جادا، حتي لو كان يهزل. استغرق إدراك تلك الحقيقة منّا وقتا لا بأس به.
ترك أدريان فِن نفسه يذوب وسط مجموعتنا، دون أن يصرح بأنه أمر كان يسعي إليه. ربما لم يكن يسعي إليه، ولا حتي غيّر من آرائه لتوافق آراءنا. في صلوات الصباح، كان يمكن سماع صوته بوضوح مشاركا المجموعة بينما أنا والكس نحرك شفتينا بالكاد مع الكلمات، فيما كان كولن يفضل الحيلة الساخرة بالصياح الحماسي المفتعل. كنا ثلاثتنا نعتبر الرياضة المدرسية خطة سرية فاشية لكبت رغباتنا الجنسية؛ بينما كان أدريان يشارك في فريق المبارزة بالسيف ويؤدي قفزات عالية. كنا محصنين ضد الموسيقي بينما كان هو يأتي للمدرسة بكلارينت. حين اصطدم كولن بأسرته، أخذت أنا أسخر من النظام السياسي وتفوه ألكس ببعض الاعتراضات الفلسفية حول الطبيعة المُدركة للواقع، فيما احتفظ أدريان بدور الناصح. كان يعطي الانطباع أنه يصدق الأمور. نحن كذلك - كل ما في الأمر أننا كنا نريد أن نصدق أمورنا، بدلا من أن يقرروا هم لنا. لذلك كنا نمارس ما نظنه شكا تطهريا. كانت المدرسة في قلب لندن، وكل يوم، كنا نسافر من جهات مختلفة، عابرين من نظام تحكم لآخر. أيامها، كان كل شيء أبسط: نقود أقل ولا أجهزة إلكترونية، الموضة أقل استبدادا، و لا صديقات. لم يكن هناك ما يشتتنا عن مهمتنا الإنسانية كأبناء، أن ندرس وأن ننجح في الامتحانات وأن نستغل إمكاناتنا في الحصول علي وظيفة ثم نحقق حياة لا يهددها شيء، و أكثر كمالا من حياة آبائنا والتي سوف يستحسنونها، حين يقارنونها في خلوتهم بحياتهم الباكرة، والتي كانت أبسط وبالتالي، أرقي. لاشيء من كل هذا - بالطبع - لا يتم التصريح به: كانت الداروينية النبيلة للطبقة المتوسطة في إنجلترا أمرا مضمرا، طوال الوقت.
"الآباء، الملاعين" صاح كولن متشكيا ذات غداء أحد أيام الاثنين "تظن أنهم جيدون وأنت صغير، ثم لا تلبث أن تكتشف أنهم..."
قال أدريان"هنري الثامن، كول؟" كنا قد بدأنا نعتاد حسّه الساخر؛ مع حقيقة أنه يمكنه أن ينقلب علينا جميعا. حين يغيظنا، أو يدعونا للكلام بجدية كان يخاطبني بأنتوني والكس يصبح ألكسندر، كلمة كولن التي لا طول لها يتم اختصارها إلي كول.
"لن يكون لديّ مشكلة لو تزوج أبي عشر زوجات"
"وصار فاحش الثراء"
"وقام الرسام هولباين برسم صورته"
"وقال للبابا أن يغور في داهية"
سأل ألكس كولن "هل هناك أي مبرر محدد يجعل منهم ملاعين سخفاء؟"
"كنت أريد الذهاب للمتنزه لكنهم قالوا أنهم سيقضون عطلة نهاية الأسبوع في الأعمال البستانية"
حقا: ملاعين سخفاء، باستثناء أدريان الذي كان يستمع لاستنكاراتنا، لكن نادرا ما كان يشارك فيها. ورغم ذلك، كانت أسبابه تبدو وكأنها اقوي منا جميعا. كانت أمه قد رحلت قبل سنين، تاركة أبيه ليتصرف معه هو وأخته. كان ذلك قبل وقت طويل من ظهور مصطلح "الأبوة أو الأمومة دون زواج" علي الساحة؛ كان يتم اعتباره وقتها "بيتا محطما" وكان أدريان هو الولد الوحيد من بين من نعرفهم، جاء من خلفية كهذه. كان ينبغي أن يملأ ذلك صدره بثورة وجودية، لكن ذلك، بطريقة ما، لم يحدث؛ قال أنه كان يحب والدته ويحترم أباه. بشكل خاص وفيما بيننا، كنا نحن الثلاثة نفكر في حالته وتوصلنا لنظرية مفادها أن مفتاح الحياة الأسرية السعيدة هو ألا تكون أسرية علي الإطلاق - أو علي الأقل ألا تعيش معا. بعد التوصل لهذا التحليل، ازددنا حسدا لأدريان.
في تلك الأيام، كنا نشعر أننا محبوسون، وفي انتظار الخروج لحياتنا. وحين جاءت تلك اللحظة، تسارع إيقاع حياتنا - وإيقاع الزمن ذاته. كيف كنا سنعرف أن حياتنا بدأت، أن مزية ما تم تحصيلها، أو أن خسارة ما قد وقعت؟ وأيضا، أن إطلاح سراحنا لن يكون إلا لسجن أكبر، بجدران لا يمكننا إدراكها.
في الوقت ذاته كنا جوعي للقراءة، جوعي للجنس، فوضويين ومؤمنين بنظرية الاستحقاق. كانت كل النظم السياسية والاجتماعية بالنسبة لنا فاسدة، ومع ذلك نبحث عن بديل آخر غير الاستسلام لفوضي اللذة. كان أدريان يدفعنا للإيمان بتطبيق الأفكار في الحياة، حيث تتولي المبادئ قيادة التصرفات. قبل ذلك، كنا ننظر للكس أنه الفيلسوف فينا.كان قد قرا كتبا لم نقرأها ويمكن له أن يعلن فجأة، علي سبيل المثال، "إذا لم يكن بوسعنا الكلام، إذن ينبغي علينا أن نظل صامتين" وأفكر أنا وكولن في فكرة الصمت هذه لبرهة، ثم ما نلبث أن نقطب ونواصل الكلام. لكن وصول أدريان نحّي ألكس عن مكانه - أو بالأحري منحنا فيلسوفا بديلا. غذا كان ألكس قد قرأ رسل وفتجنشتاين، فقد قرأ أدريان كامو ونيتشة. أنا قرأت جورج أورويل بينما قرأ كولن بودلير ودوستويفسكي. هذا مجرد كاريكاتير بسيط.
نعم، كنا بالطبع مدّعين - لماذا خُلق الشباب إذن؟ كنا نستعمل مصطلحات مثل "رؤية كونية" أو "العاصفة والاندفاع" وكنا نستمتع بترديد عبارة "هذا أمر واضح فلسفيا وكنا واثقين أن وظيفة الخيال الأولي هي أن يكون متعديا. كان آباؤنا يرون الأمور بصورة مختلفة، متصورين أننا أطفال أبرياء تعرضوا لمؤثرات ضارة. كانت أم كولن تطلق عليّ "الملاك الأسود"؛ وتوجه والدي باللوم إلي ألكس حين وجدني أقرأ المانفستو الشيوعي، وتوجهت أصابع الاتهام نحو كولن عندما وجد أهل ألكس معه رواية جريمة أمريكية خادشة للحياء. وهكذا. كان الأمر نفسه مع الجنس، كان أهلنا يخافون علينا من بعضنا أن نصبح أقصي ما يثير رعبهم: مدمنين للعادة السرية، شواذ صاخبين أو منحلين نتهور ونجعل الفتيات تحبل. كانوا خائفين من الصدقاة المتينة بين مراهقين، سلوك الغرباء المفترس في القطارات وإغواء البنات الفاسدات. كم كانت المسافة شاسعة بين مخاوفهم وبين خبراتنا.
ذات مساء كان جو هنت الكبير، وكأنما هو ردٌّ علي تحدي أدريان القديم، قد طلب منا مناقشة دوافع الحرب العالمية الثانية: لا سيما مسئولية اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند عن كل ما جري. وقتها كنا مولعين بالمُطلَقات. نفضل من الإجابات نعم أو لا، المدح أو الذم، الإدانة أو التبرئة - أو كما فعل مارشال، الاضطرابات أو الاضطرابات العظيمة. كنا نحب اللعبة التي تنتهي بالمكسب أو الخسارة، وليس التعادل. وهكذا، بالنسبة لبعضنا، كان المسلح الصربي، والذي غاب اسمه عن ذاكرتي، مسئولا بشكل تام عما حدث: حاوِل انتزاعه من المعادلة، وستجد أن الحرب كانت مستحيلة الحدوث، بينما فضّل البعض الآخر المسئولية التامة للدوافع التاريخية، والتي وضعت القوميات المتضادة في مسار ينتهي حتما بالصدام "كانت أوروبا برميلا من البارود ينتظر الاشتعال" وهكذا. الأكثر عبثية، مثل كولن، تحدثوا عن أن كل شيء خاضع للصدفة وأن العالم وجد في حالة من الفوضي الدائمة، أنه لا شيء سوي غريزة الحكي البدائية، والتي لا شك في ارتباطها بالدين، هي التي تخلع معنيً علي كل ما حدث أو لم يحدث.
منح هنت كولن إيماءة موجزة لمحاولته هدم كل شيء، كأن داء الكفر هو نتيجة طبيعية للمراهقة، لن تلبث أن تكبر وتتخلص منه. اعتاد الأساتذة والآباء أن يذكرونا بشكل مثير للأعصاب أنهم هم أيضا كانوا صغارا، وأنه بإمكانهم الحديث من موقع سلطة.
يصرون علي تلك الفكرة، أنها مجرد مرحلة، وأنك ستكبر وستتجاوزها؛ ستُعلمك الحياةُ الحقيقةَ وكيف تكون واقعيا. لكننا وقتها كنا مقتنعين أنهم لم يكونوا أبدا مثلنا، وأننا اقتنصنا الحياة - وقبضنا علي الحقيقة، والأخلاق، والفن - أكثر مما فعل الكبار المتصالحون.
"فِن، أراك تجلس هادئا. لقد دفعت أنت هذه الكرة، وأراك صامتا، كأنك أنت الصربي المسلح" توقف هنت عن الكلام قليلا ليترك التلميح يصل كاملا "هل يمكنك أن تتفضل وتنفعنا بأفكارك حول الموضوع؟"
"لا أعلم، سيدي"
"ما الذي لا تعلمه؟"
حسنا، من جهة، لا يمكنني أن أعلم ما الذي لا أعلمه. هذا أمر واضح فلسفيا." أعقب ذلك برهة من الصمت جعلتنا نتساءل ما إذا كان كلامه سخرية خفية أم أنه جادّ تماما. "فعلا، إذا ما كان تحميل المسؤولية نوعا من الهروب؟ كأننا نريد أن نتوجه باللوم لفرد ليتم تبرئة الباقين، أو أن نلوم حركة التاريخ ونبرئ الجميع، أو أن نتصور الأمر مجرد عبث فوضوي لنصل لنفس النتيجة. يبدو لي أنه كان - ولا يزال - هناك سلسلة من المسئوليات الفردية، جميعها ضروري، لكنها ليست متتالية يمكن للجميع أن يلقوا فيها اللوم ببساطة علي الآخرين. لكن، بالطبع، رغبتي في تحميل المسؤولية ربما يكون انعكاسا لأفكاري أكثر منه تحليلا منصفا لما حدث. هذه أحد المشاكل المركزية للتاريخ، أليس كذلك؟ سؤال الموضوعية إزاء ذاتية التفسير، حقيقة أننا بحاجة لفصل التاريخ عن المؤرخ لندرك الصيغة التي تستقر بين أيدينا"
حل الصمت. لا، لم ينجح في أن يسخر منه، إطلاقا.
نظر جو هنت الكبير لساعته وابتسم "فِن، سأتقاعد بعد خمس سنوات. ويسعدني أن أن أشير لبعض المراجع إذا كنت مهتما بالنظر فيها" ولم يتركه يسخر منه، كذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.