النكتة المصرية القديمة عن الساعاتى كوهين الذى توفى نجله فنشر نعيًا فى جريدة يقول: «كوهين ينعى ولده ويصلح ساعات»، تتكرر فى باريس. فى الصف الأول يظهر رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى مظاهرة ضد الإرهاب فى ميدان الجمهورية بباريس، ومساء يرتدى الكيباه اليهودية فى المعبد اليهودى بباريس ليخاطب يهود فرنسا يدعوهم إلى الهجرة إلى ما سماه وطنهم إسرائيل . مكافحة الإرهاب بالعنصرية، هكذا يمكن أن تسمى ما فعله نتنياهو فى باريس، الرجل المقبل على انتخابات تشريعية بعد حل الكنيست تلقف ما جرى فى باريس من هجمات على الصحيفة الفرنسية شارلى إبدو وعلى المتجر اليهودى، ليحاول استثمار ذلك فى تصفية حساباته مع قوى المقاومة الإسلامية فى فلسطين، ليرسخ وجودها فى معسكر الإرهاب، وليبدو مع دولته المحتلة جزءًا من معسكر يضع نفسه فى خانة الحضارة والقيم الديمقراطية والحريات، وليخاطب ثروات يهود فرنسا لضخ مزيد من الدعم لشرايين الاقتصاد الإسرائيلى، ولينتزع أمام قادة الدولة الفرنسية التى صوّت برلمانها قبل أسابيع لصالح إقامة دولة فلسطينية، مما يمكن أن تسميه فرضًا لواقع يحاول تسميته الدولة اليهودية . قضية الإرهاب فى فرنسا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعنصرية، بسياسات اليمين المتطرف، بأجيال كثيرة من الفرنسيين المسلمين المولودين على أرض فرنسا والحاملين لجنسيتها، سقطوا وسط سياسات التهميش والإقصاء وتباطؤ الاندماج، لكن على الرغم من ذلك الواقع يخرج الرئيس الفرنسى أولاند ليحذر من موجات العداء للمسلمين، وليؤكد عدم تراجع بلاده عن استقبال المهاجرين ودمج مواطنيها المسلمين فى إطار المجتمع الفرنسى وقيم الجمهورية، بذات الالتزام خرجت تأكيدات من ألمانيا وأستراليا وعواصم غربية أخرى، نتنياهو وحده ادَّعى مكافحة الإرهاب والانتصار لقيم الحرية وحقوق الإنسان، وواصل انتهاك هذه القيم بعنصرية فجة فى ذات العاصمة التى تدافع عن هذه القيم. طرح نتنياهو إسرائيل باعتبارها دولة اليهود ووطنهم، كل اليهود أينما كانوا وأيًّا كانت جنسياتهم، وليست دولة كل مواطنيها المقيمين فيها من يهود ومسلمين ومسيحيين، إلى أى مدى يتوافق هذا الإقصاء الطائفى مع القيم الفرنسية ومع حقوق الإنسان ومعايير الدولة الحديثة. ما الفارق بين رئيس وزراء دولة تدعى انتماءها إلى معسكر الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والمعايير العلمانية للدول، وهو يفرق بين مواطنيه على حسب الدين، ويرى أن اليهودى الفرنسى أو الأسترالى أو الإفريقى أقرب إليه من المواطن الإسرائيلى المسلم أو المسيحى، وبين التنظيمات الإسلامية المتطرفة المصرية مثلًا التى تروج أيضا أن المسلم الماليزى أقرب إليها من المسيحى المصرى؟ وما الفارق بين نموذج الدولة التى سعت الحركة الصهيونية لبنائها، ويحاول نتنياهو تعويض الفشل المتزايد فى هذا البناء بالإلحاح على يهودية الدولة وحق كل يهودى فى العالم فى مواطنتها والهجرة إليها، وبين نموذج الدولة التى يسعى داعش وسائر التنظيمات الإسلامية المتطرفة لبنائها، دولة دينية للمسلمين وفقط، والذميون فيها من أصحاب الديانات الأخرى فى درجة مواطنة تالية؟ بأى معيار حقوقى يمكن تقييم دعوة نتنياهو اليهود فى كل العالم للهجرة إلى إسرائيل، فى الوقت الذى يتعنت فيه الشخص ذاته فى التسليم بحق العودة للفلسطينيين الذين غادروا منازلهم وقراهم ومدنهم إلى المخيمات تحت تهديد السلاح ووقع المذابح الدموية الصهيونية، التى لا يفعل المتطرفون إلا محاولة التعلم منها والسير على خطواتها، سواء فى استخراج النصوص الدينية التى تتيح القتل باسم الرب، أو آليات تفجير القرى وترويع المختلفين وقتل المعارضين؟ أى إرهاب ذهب نتنياهو لمحاربته؟ هل ذهب ليحارب العنصريين المتطرفين ممن هم على شاكلته؟ ولا فارق بينهم سوى أن سابقيه فى العصابات الصهيونية نجحوا فى انتزاع دولة، بينما تلاميذهم الإسلاميون ما زالوا يحاولون، وبات هو يرتدى الملابس الحديثة ويتحدث كثيرًا عن العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما يعلن عنصريته على الملأ وأمام القادة الفرنسيين الذين يروجون لأنهم فى حالة عداء مع العنصرية والتطرف سواء صدر من يمين قومى متطرف أو يمين إسلامى يمارس الإرهاب. لم يستطع العالم المتحضر أن يجد حلًا لنموذج إرهاب الدولة، ويحاول أن يجد حلولًا لنماذج تستقى من إرهاب الدول ما يبرر أفعالها ويمكنها من الحياة والاستمرار والخروج كل مرة فى صيغة جديدة واسم جديد. العنصريون لا يصلحون لمكافحة الإرهاب، لأنهم والإرهابيين وجهان لذات العملة، وشريكان فى ذات الجرم، لا فارق بين من يقدم نفسه مخلصا لليهود، ومن يرى نفسه خليفة المسلمين.