كانت هذه الزيارة هى الثانية لى إلى الأردن، الأولى عابرة قبل عامين فى الطريق إلى رام الله، أمَّا هذه فقد استمرت لنحو خمسة أيام للمشاركة فى مؤتمر «أريج للصحافة الاستقصائية»، ورغم جدول الورش واللقاءات والمحاضرات المزدحم كان على الواحد أن يهرب ليتجوَّل فى شوارع عَمَّان الهادئة. تنام العاصمة الأردنية مبكرًا، فى التاسعة مساءً، من الصعب أن تتسوَّق فى وسط البلد أو جبل الحسين، أحد أشهر أحياء عَمَّان، وتسمع دومًا عبارة أن المحلات سكّرت ، لكن هذا التسكير لا يشمل المقاهى والنوادى الليلية التى تسهر حتى الصباح، بفعل الغناء الحى لفنانين أردنيين شعبيين، وتدخين الشيشة الذى لا ينقطع، والذى يبدو لأهل الأردن طقسًا يوميا أصيلا لا يمكن التخلى عنه تحت أى ظروف. أهل الأردن ودودون كثيرًا مع ضيوفهم، خصوصًا عندما يكون مصريا، سائق تاكسى عندما عرف جنسيتى تغيَّرت لهجته الشامية فورًا إلى لهجة مصرية شبراوية أصيلة، وراح يردِّد عبارات شهيرة لمحمد سعد فى فيلم اللمبى فى مرح، قبل أن يستدرك بأن المصريين والأردنيين أصبحوا أهلا منذ سنوات بعيدة، مشيرًا إلى عدة بنايات شاهقة قائلا: المصريون هم مَن بنوا هذه العمارات ، تأثير السينما المصرية لا يزال عابرًا للحدود، وتأثير كفاءة العمالة المصرية لا يزال علامة مميزة كما ترى. لكن الحياة فى عَمَّان وضواحيها مُكلِّفة، فخلال زيارتى أول شهر ديسمبر الماضى كانت هناك سعادة بسبب تراجع أسعار البترول عالميا، لأن ذلك انعكس مباشرة على أسعار الوقود الذى يستورده الأردن من الخارج، هكذا تراجع سعر لتر بنزين 95 من دينار واحد إلى 85 قرشًا. الدينار بعشرة جنيهات مصرية، ولك أن تقارن إذن بين سعر البنزين فى مصر حتى بعد تقليل الدعم الحكومى له وسعره فى الأردن. سألت عن متوسط دخل المواطن هنا، فعرفت أنه يتراوح ما بين 250 و300 دينار شهريا، هذا أيضًا رقم غير كبير مثل شقيقه فى مصر، ويعنى أن على الأردنى أن يعمل ساعات إضافية ليستطيع توفير مستوى معيشة أفضل. نصف عدد سكان الأردن، الذى يُقدَّر بنحو خمسة ملايين، من أصول فلسطينية، نزحوا إلى الأردن فى أجيالهم الأولى عقب حرب 1948 وإعلان دولة إسرائيل على التراب الفلسطينى، وبعد مرور نحو 60 سنة من الهجرة الفلسطينية الأولى إلى الأردن ذابت الأصول فى الوطن، وأصبح من الصعب تمييز الأردنى النقى من الأردنى ذى الأصول الفلسطينية، لكن الأمر لا يخلو من بعض التوترات بين الحين والآخر لاعتبارات قبلية وعشائرية، يظهر هذا مثلا فى مباريات كرة القدم التى تجمع بين أشهر فريقين فى الأردن، وهما الوحدات والفيصلى، فالفريق الأول محسوب على الفلسطينيين الأردنيين ، أما الثانى فلأهل الأردن الخالصين. فى كل الأحوال فإن تاريخ العلاقة بين الفلسطينيين والأردنيين متشابك وحسَّاس، ولا يزال، حتى إننى بحثت عن أى كتاب يُؤرِّخ لما يُعرف بأحداث أيلول الأسود عام 1970 التى وقعت فيها حرب حقيقية بين الجيش الأردنى وفصائل المقاومة الفلسطينية المقيمة فى عَمَّان آنذاك، فلم أجد كتابًا واحدًا يشرح حقيقة ما حدث، بل إن السؤال عن أيلول الأسود فى المكتبات كان يقابل طوال الوقت بارتياب وقلق، أو بهزات مستنكرة من الرأس، تحمل معنى واحدًا هو كيف تسأل هذا السؤال . يبدو الأردن كنزًا صحفيا لأى متهم يرصد شؤون الجماعات الإسلامية، فالإخوان هناك يمارسون السياسة على طريقة نظام مبارك، اعتراف ضمنى لكن مفاتيح التضييق فى يد الملك، هكذا فإن الإخوان لهم ممثلون فى البرلمان، وتصدر جريدة السبيل لتعبِّر عن توجهاتهم، لكنهم يفعلون ذلك تحت غطاء التقدير لجلالة الملك ، وفى الأردن أيضًا يوجد أهم منظِّرى التيارات الجهادية فى العالم، أبو محمد المقدسى، وهو الرجل الوحيد ربما فى المنطقة الذى يمكنه أن يرفع هاتفه ليتحدَّث مع قيادات داعش ، فيستمعون إليه باعتباره الأب الروحى لكل التنظيمات الجهادية فى ربع القرن الأخير، كاد المقدسى يلعب دورًا فى الإفراج عن الصحفى الأمريكى، بيتر كاسيج، المختطَف لدى داعش فى أكتوبر من العام الماضى، بالتنسيق مع الاستخبارات الأردنية ومحامٍ يهودى شهير، لولا أن الاستخبارات الأردنية ارتأت فجأة أن ذلك قد ينقلب عليه، فقامت باعتقاله مجددًا، وبعد أربعة أشهر فقط من الإفراج عنه بعد قضاء عقوبة طويلة بالسجن بتهمة تجنيد متطرفين للعمل مع طالبان ، فكانت النتيجة أن ذبحت داعش الصحفى الأمريكى المختطَف. الأردن بلد ثرى كما تلاحظ، لكن الأيام الخمسة لا تكفى بكل تأكيد لاستيعاب كل هذا الثراء.