أحد أكبر تحديات المرحلة الانتقالية الثالثة يتمثل فى ضرورة بناء جسور من الثقة والحوار بين الدولة، والكتل الشبابية من أبناء الطبقة الوسطى المدينية التى شكلت طلائع الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011، وكانت أحد مراكز الحيوية السياسية المستعادة آنذاك، ووقف غالبها رافضا محاولات تغيير طبيعة الدولة المصرية «المدنية» الحديثة إلى دولة دينية على نحو ما أرادت القوى الإسلامية السياسية على اختلافها، بكل ما يترتب عليه ذلك من قيود على الحريات العامة والشخصية، والمرأة والأقباط والجماعات الدينية والمذهبية الأخرى. هذا الموقف الصلب والعنيف من قبل الطلائع الشابة هو الذى مهد للرفض الشعبى العارم لحالة الاضطراب السياسى والأمنى التى سادت طيلة حكم جماعة الإخوان المسلمين الذى افتقر إلى الكفاءة والخيال السياسى ومهارات إدارة الدولة وأجهزتها وتقاليدها. من هنا شاركت أقسام من هذه الطلائع فى التمهيد لما تم فى 30 يونيو وما بعد فى إطار المرحلة الانتقالية الثالثة التى ما زالت مساراتها تتشكل. إن تراجع بعض الطلائع الشابة عن المشاركة السياسية، واللا مبالاة بما يحدث يعود إلى عديد الأسباب التى يجب استيعابها حتى يمكن بلورة سياسة للثقة بين هؤلاء والدولة والنخبة السياسية الحاكمة. يمكن لنا أن نرصد بعض هذه الأسباب فى ما يلى: 1- عودة بعض رموز نظام مبارك إلى واجهة المشهد السياسى، وكأنهم عادوا دون أن ينسوا شيئا أو يفهموا طبيعة التغير الذى حدث فى مصر، هؤلاء عادوا دون ذاكرة سياسية، وكأن ما حدث هو محض اضطراب أمنى، سرعان ما ستتم مواجهته بالقوة، وتشويه هذه الطلائع الشابة وكيل الاتهامات بلا سند لهم جميعا، وكأنهم كانوا جزءا من مؤامرة على نظام الحكم. لا شك أن بعض هؤلاء من رجال الأعمال يحاولون فرض النسيان من خلال القنوات الفضائية التى يملكونها ويديرونها دعما لمصالحهم ولحضورهم فى قلب المشاهد السياسية المتغيرة. 2- غياب آليات حوارية بين قادة النظام ومؤسسات الدولة مع هؤلاء الشباب حول قضايا وتحديات المرحلة الانتقالية الثالثة، وعلى رأسها الحوار حول الحريات العامة والشخصية وأولويات الأمن وسياساته، وضرورات الاستقرار الأمنى لإعادة الثقة فى الدولة المصرية إقليميا ودوليا، ومن ثم تنشيط الاقتصاد المأزوم. 3- قانون التظاهر والخلافات التى نشبت حول نصوصه وضوابطه، وهو الأمر الذى وقف إزاءه المجلس القومى لحقوق الإنسان، والأحزاب، وبعض الكتاب والمفكرين، بل أراد السيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى أن يغير من بعض نصوصه العقابية وتخفيض منسوب العقوبة على مخالفة قواعده، لكن بعض أجهزة الدولة طالبت باستمراره حتى يحقق الردع العام فى ظل مواجهة الإرهاب. 4- الأحكام التى أصدرها القضاء إزاء بعض النشطاء الحقوقيين والسياسيين الذين خالفوا القانون، أو تظاهروا ضده على نحو ما أدى إلى تزايد انتقادات بعض الشباب والحقوقيين للقانون أساسا. 5- الأحكام القضائية الصادرة ببراءة مبارك وبعض قادة نظامه، فى ظل أحكام إدانة للنشطاء الشباب، وذلك فى ظل قضايا قدمت للمحاكمات وافتقرت إلى أدلة ثبوت مقنعة قدمت من بعض من أجهزة جمع الأدلة الجنائية. 7- خطاب الاتهامات السياسية إلى الشباب ونشطائهم، وإسناد ما حدث من اضطرابات خطيرة منذ 11 فبراير 2011 وحتى الفترة الحالية، وأن ذلك يعود إلى تظاهراتهم، وغضبهم فى الجامعات والشارع، ومن ثم محاولة بعض القنوات الفضائية والصحف الحكومية تأليب المواطنين على الشباب. يبدو لى أيضا أن تمدد ظاهرة الشيخوخة الجيلية فى الدولة وجمودها وترهلها البيروقراطى كرس هيمنة فكر دولتى قديم يقاوم التغيير والتجديد فى الأفكار وأساليب العمل، فضلا عن الإزاحة المتعمدة للشباب عن مواقع القيادة أو التوجيه على نحو أدى إلى تمدد ظاهرة الأنامالية السياسية، واللا مبالاة. إن تراكم سلوك اللا مبالاة اتسع نطاقه فى ظل أكثر من ثلاثين عاما مضت، وتزايد مع القيود الثقيلة المفروضة على المجال العام السياسى، وهو ما أدى إلى رحيل غالب الشباب إلى المجال العام الافتراضى الأكثر حرية. لا شك أن ذلك تفاقم مع أزمات التكامل الوطنى، وأثرها على مفاهيم الهوية الجامعة، والقومية أو الوطنية، وفق المعانى والحساسية والشعور الذى كان سائدا فى إطار الحركة الوطنية الدستورية قبل 1952، ومفهوم الاستقلال الوطنى فى ظل ثورة يوليو 1952. من هنا نستطيع أيضا أن نرى أثر تفكك السرديات السياسية الكبرى وأيديولوجيات ما بعد الكولونيالية، والمفاهيم الكبرى المتخيلة التى شكلت بعض من تكوين وإدراك ووعى وربما أوهام الأجيال الأكبر سنا التى لا تزال عند قمة جهاز الدولة، وفى النظام السياسى الحاكم قبل وبعد 25 يناير 2011، و30 يونيو 2014. إن تراجع مستويات تكوين وخبرات هذه الأجيال كبيرة السن أصبح ظاهرة خطيرة بفعل تسارع التغير فى الأفكار والسياسات والتجارب السياسية والدولتية والإدارية المقارنة، وعدم متابعتها للتجارب الجديدة بعد الثورة الرقمية الهائلة، أدى إلى تزايد الفجوات بينهم، وبين الأجيال الجديدة التى أصبحت هذه الثورة وانعكاساتها الفكرية والقيمية والإدراكية جزءا من تكوينها وإدراكها للأمور. إن نظرة فاحصة على الانقسامات بين الدولة والنظام والشباب تدفع إلى ضرورة بناء جسور من الثقة بين الطرفين من خلال سياسة جديدة، تبدأ بعفو يصدر من الرئيس عبد الفتاح السيسى يشمل يارا وزملاءها، ومعهم الشباب الآخرون، مع الوعد بإعادة النظر فى قانون التظاهر، والأهم تأكيد أن الأمن لا يتناقض مع الحريات، وأن الدولة والرئيس مع التطور الديمقراطى السلمى، وتمكين الشباب سياسيا، وفى إطار عمليات تجديد الدولة المصرية وهياكلها، وذلك فى إطار رؤية داعمة للحريات، وتطوير دولة القانون وفق فلسفة قانونية جديدة، وهو أمر من الأهمية بمكان فى المرحلة القادمة قبل وبعد انتخابات البرلمان القادم. إن الخطوة الأولى تبدأ بعفو رئيس الجمهورية عن الشباب المحكوم عليهم، لأن ذلك يشكل اللبنة الأولى فى الطريق الصعب نحو بناء ديمقراطى حقيقى فى البلاد.