تبدو السلطة في غالب الدول والمجتمعات والعصور غاوية وفاتنة ولذائذية لمن استطاعوا الوصول إليها, وفي عيون وإدراكات من يرمون وصالها! ولكن السلطة فتنة وتحمل في أعطافها عديد الأمراض السياسية والنفسية وغالبا ما تنطوي النفس السلطوية الأمارة بالسوء علي بواعث الانحراف بها عن مسارات الشرعية وضوابطها, وقواعد دولة القانون علي اختلافها. لاسيما في مجتمعات السلطنة الشرقية, حيث الافتقار إلي التقاليد المؤسسية, وغياب معني الدولة ورأسمالها الخبراتي لدي( بعض) ممن يصلون إلي سدة الحكم, ويعتقدون أنهم هم الدولة علي نمط لويس السادس عشر أنا الدولة والدولة هي أنا!, ومن ثم يختصرون الدولة في ذواتهم المصونة والمحصنة ضد النقد أو العزل أو المساءلة القانونية عن بعض قراراتهم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو انحرافهم بالسلطة كما يعرفها القانون الحديث والمعاصر. مواريث الطغيان الشرقي تمددت في الثقافة السياسية القمعية المصرية, حيث الغلبة والهيمنة واللا مبالاة بحكم القانون, وبحقوق الناس وحرماتهم ساد وطغي واستمر بعض من عناصره في تركيبة الدولة الحديثة, وهو ما تجلي منذ القانون النظامي في عهد محمد علي إلي دساتير إسماعيل باشا إلي المرحلة شبه الليبرالية23 يوليو1952, التي حاولت نقل السلطان الشرقي الطغياني إلي مفهوم الدولة الأمة الحديثة, ومن ثم استعارت الهندسات القانونية والإدارية والتعليمية من الأطر الأوروبية التي كانت رمزا علي تطور الدولة ومؤسساتها في عالمنا. الموروث السياسي والسلطوي الطغياني لمن في الحكم تجسد في تحلل الحكام من الضوابط الدستورية عبر الفجوات بين الهندسة الدستورية وبين الواقع السياسي, سواء من خلال تجاوز بعض النصوص التي تحد من سلطة الحاكم, أو من خلال الإهمال وعدم التطبيق أو عبر الانقلابات الدستورية كما حدث مع دستور1923 من خلال دستور.1930 في عالم ثورة يوليو1952 لم تكن الدساتير تمثل إطارا لحركة الحاكم وقراراته وسلطاته, وأيضا سلطات الدولة علي اختلافها, كانت الدساتير محض أداة علي هوي ومقاس الحاكم الفرد الذي تعلو إرادته ومشيئته وأهواءه السياسية ونزواته فوق الدستور والقانون! كانت الدولة وأجهزتها هي رهينة الحاكم وأداته! من هنا لا نستطيع الحديث عن تجارب دستورية ديمقراطية وعميقة بنيويا منذ23 يوليو1952 حتي اللحظة الراهنة وما يتم في اللجنة التأسيسية حيث يسود بعض من اللغو والتجريب وفقدان الخبرات الفنية والسياسية والمعرفة العميقة بتطورات التجارب الدستورية المعاصرة لاسيما تلك التي تأسست في أعقاب انهيار النظم الديكتاتورية والتسلطية بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية الماركسية, وبعض النظم الأخري في القارات الثلاث. تجاربنا الدستورية اليوليوية هي تعبير عن ثقافة الحاكم الطاغية العادل حينا علي النمط الناصري, والمدلهون بالسلطة وغواياتها علي نحو ما رأينا بعدئذ من تجارب لم تكن سوي وبالا علي معني وقيمة وتقاليد الدولة والدستور والقانون, تلك المعاني التي عرفتها النخبة السياسية المصرية في إطار الحركة الوطنية الدستورية المعادية للاستعمار البريطاني, وبعض ممن عملوا حول الرئيس ناصر من أبناء التكوين العلمي والسياسي شبه الليبرالي. لا نزال نقرأ ونسمع عن عجائب الاقتراحات والآراء والنصوص التي يقدمها بعض القادمين الجدد للسلطة, التي ينبو عنها الحس السليم, والذوق اللغوي والذائقة الدستورية والدولتية المرتبطة بالدولة الأمة الحديثة والمعاصرة وتطوراتها المعقدة! نقرأ ونسمع عن أمور تكشف عن أن بعض هؤلاء لا يعرف معني النظام العالمي المعولم الذي نعيش كطرف ضعيف في إطاره, يتصورون أن بعض آرائهم البسيطة هي العالم, ومركز الكون وأنهم بمقدورهم أن يتحللوا من الالتزامات الدولية والاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت وصادقت الدولة عليها, وأصبحت جزءا لا يتجزأ من نظامنا القانوني ومن ثم واجبة الأعمال. أخطر ما في فتنة السلطة ومفاتنها ومغانمها هو الأثر النفسي الخطير للسلطوية التي تغشي بعض النفوس وتعيد تشكيلها وتغير توجهاتها, ويتحول بعضهم من شخصيات مولعة بالبساطة والطيبة وربما الذكاء إلي نفسية الملك العضوض, والأمر والنهي المطلق بلاضوابط أو روادع ولو أخلاقية تحمي السلطان الشرقي أيا كان موقعه من دوائر السلطة من نفسه الأمارة بالسوء, ومن غلواء الأنانية وجنون العظمة السلطوي ابن ثقافة القمع والطغيان التي تسود دوائر السلطة والتي نعتقد أن بعضا من عناصرها التكوينية انكسرت في أعقاب العملية الثورية في25 يناير.2011 مصر تغيرت بعض مكوناتها ووجوهها, ولكن يبدو أن بعض الشيخوخة والذكورية السياسية والجيلية والتسلطية لاتزال تسم مشاهد السياسة وتفاعلاتها, والسلطة ورجالها بل وبعض الأغوات الصغار الذين تلبستهم روح الطغيان الوبيلة! أن مشاهد الاستعراض السلطوي لا تشمل( بعضا) ممن عرفنا قبلا من عديد الأشخاص الذين كانوا من العاديين ذوي اللطف والشمائل الطيبة سواء ممن كسبوا السلطة أو( بعضا) ممن يلعبون أدوار المعارضة التلفازية علي المسارح المرئية للفضائيات, أو منصات الكلام واللغو المباح ونقائضه من الخطابات والشعارات واللغة الخشبية. كل هذه الذوات المتضخمة والوجوه الطاوسية والكلام الفارغ وغير المسئول تلعب علي مسرح لا أحد يراه! ولا نجد بعض مقاربات جادة ورصينة من بعضهم- في السلطة أو المعارضة- للتعامل مع تركة ضخمة وثقيلة من الانهيارات في الدولة والسلطة والبيروقراطية والأخطر في الأنفس والأرواح والقيم والضمائر المثقوبة! المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح