"احذروا الصين"..كلمات قالها الفيلسوف الفرنسى جين جاك وارسو .. لم يقصد بها المنتجات المضروبة بالطبع..ولكنها توقعات، تنبأت بصعود أمة ضخمة الى عنان السماء، تغزو العالم بالعلم والعمل، تتفوق على سائر الأمم، تثبت للجميع أهمية الطاقة البشرية في وقت يشعر الأخرون بالمعاناة منها، الأمر الذى لم يكن ينجح، إلا بقائد، يخرج من رحم الفلاحين، ينيرها بعدما كانت ظلاماً، ينهى عصور من الهلاك، ويفتح باباً للأمل، إنه "ماو تسى تونج"، الزعيم، الديكتاتور، وأبو الصين الثورية..المنتجة..المصنعة، والذى يصادف اليوم 26 ديسمبر تاريخ ميلاده. ولد تونج في عام 1893، في وقت عانت فيه الصين من حرب أهلية، فقر رهيب، ومحاصرة من جميع الجهات، بواسطة قوات أجنبية، دأبوا التعدى عليها يوماً بعد يوم، ما جعل الشعب هناك يفقد الأمل، إلا تونج، الذى عاش لتحقيق حلم طفولته، ومشاهدة بلاده تعود الى مكانها التقليدى، أمة عظيمة، أبية. ومع مثابرة لا تصدق، واستراتيجية تنم عن مولد زعيم، لا يأتى الى الدنيا سوى مرات معدودة، تخرج تونج من مدرسة المعلمين بإقليم تشانجشا في عام 1918، واستقر على العمل كمدرس، وهى الفترة التى قرأ فيها عن الأدب الماركسى، وتعمقت بداخله أهدافها فصار شيوعياً متعصباً، وواحداً من إثنى عشر شخصاً، أسسوا الحزب الشيوعى الصينى في مدينة شانجهاى، والذى كان بمثابة "المدخل"، لتحقيق أهدافه، وأحلامه. وفى بداية حياته السياسية، حرص ماو على تغذية حزبه بالعمال، معتبرهم الفئة التى ستقود البلاد، الى ثورة شاملة، تقتلع جذور الفساد، وتنهى الطبقة البرجوازية التى تتوارى وراء شياطين الإحتلال، لمصالحهم الخاصة، ليتحالف مع الحزب القومى الحاكم للصين بقيادة صن يات سن، والذى إتفقت أهدافه مع تونج، فكلا منهما كان يرى ضرورة التخلص من الإقطاعيين الكبار ملاك الأراضى. وفى عام 1927، إنفرط عقد التحالف الذى جمع ما بين القوميين والشيوعيين، وعاد تونج في تفكيره مرة أخرى، وبنظرة أشمل وأعمق، وجد ثروته الحقيقية متمثلة في "الفلاحين"، أكثر فئات الأرض ظلما على مدار التاريخ، ومن هنا، بدأ نهجاً جديدً انطلق كالسهم، سطر به فرعاً جديداً من فروع الشيوعية سمى بال "ماوية"، معدلاً على ما كتبه ماركس قائلاً "الثورة لا يمكن قصر القيام بها على العمال، بل بالفلاحين". وبالفلاحين الذى ولد بينهم، إنطلق تونج في ثورته، مؤسساً بالإشتراك مع أعضاء أخرين من الحزب الشيوعى "الجيش الأحمر" في بداية الثلاثينات من القرن الماضى، والذى أصبح فيما بعد جيش تحرير الشعب الصينى، حمل على عاتقه محاربة الحزب القومى الحاكم منبع الفساد، في سلسلة من المسيرات الثورية، أشهرها "المسيرة الطويلة"، استبسل فيها الجيش الأحمر، ووضع معها الحزب الشيوعى خطة للإستيلاء على الحكم عنوانها "شيئاً فشيئاً لابد للثورة أن تنتصر". وبعد وفاة معظم القادة بالحزب الشيوعى، وقتال دام نحو 20 عاماً، تولى تونج قيادة الحزب منفرداً، ونجح في قلب نظام الحكم، والسيطرة على جميع أنحاء الصين في عام 1949، ثم أعلن بعدها تأسيس الجمهورية الشعبية الصينية. ووضع تونج خطة لنهضة الصين سميت بالخطة الخمسية الأولى، ركز فيها على الصناعات الثقيلة، تحسين الزراعة، تقديم العلاج والرعاية الطبية بالمجان، وحققت الصين تقدماً إقتصادياً مذهلاً، وتحولت من بلد شبه إقطاعية، معظمها من الأميين، يغلب عليها الطابع الزراعى، تشمل ما يقرب من أربعة مليون ميل مربع، وخمس سكان العالم، الى دولة إشتراكية حديثة، صناعية، صنعت معها الصين قنابل نووية خاصة بها، صواريخ موجهة، وأصبحت مُنتجاً رئيسياً للنفط. ومع الصين الجديدة التى أنشأها، رسم ماو مساراً جديداً في مجال الشؤون الخارجية، ووضع نهاية لقرن من الذل تحت "المعاهدات الغير متكافئة" التى فرضها الغرب، ونجح فى إستعادة مقعد الصين الدائم في الأممالمتحدة، الى جانب إطلاقه قمراً صناعياً كان الأول من نوعه. وفى نفس الوقت الذى جدد به الصين، لم ينج تونج من وصفه بالديكتاتور الشرس، ولم يكن يطيق أى معارضة لسيطرته، ففى أوائل الخمسينات من القرن الماضى، ولتثبيت وترسيخ حكمه في البلاد، أطلق تونج حملة ضخمة فى مختلف أنحاء البلاد أعدم فيها مئات الآلاف من معارضينه. ولم تخل حياة تونج من السقطات الكبيرة أهمها مبادرة "القفزة الكبرى الى الأمام"، والتى أجبر فيها الملايين من الفلاحين، العمال، والمدنيين على العمل وفق برنامج يتطلب السير بمعدلات سريعة، لم يستطع معها الشعب مواكبتها، فأدى ذلك الى إنهيار هذا المشروع، مخلفاً وراءه خسائر ضخمة، أضطرت معها الصين قضاء سنتين من التقشف بلا طعام ولا ملابس حتى نجحت في تجاوز هذه المحنة. واستمرارً للديكتاتورية التى كان عليها تونج، فقد أعلن في عام 1966 ثورة سميت بال "الثورة الثقافية"، هدفت الى اجتثاث جذور الطبقة البرجوازية التى إنتشرت بحزبه الشيوعى الحاكم، وأطلق من خلالها ملايين الطلبة من المدارس العليا، والجامعات، ليخدموا ضمن حرس سمى "الحرس الأحمر"، والذى سبب فوضى كبيرة في البلاد، دافعاً الصين الى شفا حرب أهلية، ولم تنتهى هذه الثورة سوى في عام 1968، بعما أمر تونج بتسريح هذا الحرس الأحمر. وعلى عكس العديد من القادة العظام، لم يحتاج تونج الذى رحل عن عالمنا في 9 سبتمبر 1976، الى وقت كى يتمرس، ويسعى للسيطرة على شؤون الحكم تدريجياً، بل إنطلق منذ يومه الأول باسطاً سيطرته على جميع أنحاء الصين، فكان هناك بمثابة الإله، يعشقه أكثر من 800 مليون صينى، ومثلت كلماته مصدراً للإلهام، وعقيدة للدولة، طُبعت في ملايين من الكتب الصغيرة، وصارت الماوية التى أسسها نموذجاً يحتذى به ، ولا زال حزبه الشيوعى الصينى، مسيطراً على الدولة، يقودها في نموذج معقد، حير العالم أجمع، فكيف لديكتاتور أن يقود دولة نحو الإزدهار، ويسير على نهج التقدم من جاء بعده دون أن تعود الدولة الى الخلف؟