يأتى إعلان الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، أن برنامج التحديث العسكرى الذى تتبنَّاه بلاده لن يتأثر بتخفيض الإنفاق العام بنسبة 5% على الأقل خلال الأعوام الثلاثة المقبلة من 2015 إلى 2017، ليؤكّد أن برنامج التسليح والتحديث العسكرى الذى أعلنت روسيا عن تبنّيه عام 2010 يقع فى القلب من المواجهة الروسية-الغربية الراهنة. ورغم أن هذا البرنامج الذى تبلغ قيمته التقديرية نحو 720 مليار دولار خلال الفترة بين عامَى 2010 و2020 لا يزال بعيدًا جدًّا عن معدلات الإنفاق والتحديث العسكريين الأمريكيين، حيث تبلغ ميزانية الإنفاق الدفاعى الأمريكى عام 2015 وحده نحو 840 مليار دولار، فإن هذا الأخير على ضآلته النسبية ترى فيه الولاياتالمتحدة تهديدًا ينبغى تقويضه. تستند هذه الرؤية الأمريكية بداية إلى أن برنامج التحديث العسكرى هذا يركّز بشكل أساسى على تعزيز قدرات روسيا فى ما يتعلق بالردع النووى والصاروخى، وحسب ما أعلنه وزير الدفاع الروسى فقد تم تحديث 56% من أسلحة روسيا الاستراتيجية حتى نهاية عام 2014، فضلًا عن تطوير قاذفات القنابل بعيدة المدى Tu-160 و Tu-95Ms ، فإن أخطر ما يشمله البرنامج تحديث صواريخ يارس و بولافا الباليستية العابرة للقارات، وكلا النوعين يمكنه حمل 10 رؤوس حربية، يمكنها مهاجمة أهداف منفصلة، مما يجعلها عصية على التتبع من قِبل أى نظام دفاع صاروخى، بعبارة أخرى فإن تطوير روسيا لتلك المنظومات الصاروخية يجعل مشروع الردع الصاروخى الأمريكى فى شرق أوروبا عديم القيمة، وهو الذى كان يهدف إلى تقويض قدرة روسيا الصاروخية على الردع، فضلًا عن الهجوم وحصارها داخل حدودها. إلى ذلك فإن التطوير الذى يطال مختلف قطاعات القوات الروسية من شأنه أن يجعل من الدب الروسى قوة إقليمية لا يضاهيها فى القدرة العسكرية أى طرف إقليمى آخر عدا الصين، التى تتبنّى برنامج تحديث عسكرى أكبر من حيث مخصصاته المالية، وبالتالى فإن الجهد الاستخباراتى والعسكرى اللازم لاحتواء النفوذ العسكرى الروسى المرجح تناميه فى النطاقين الأوروبى والشرق أوسطى سيقوض، من جهة، وبشكل متزايد، المشروع الاستراتيجى الأمريكى للاستدارة شرقًا باتجاه جنوب وجنوب شرق آسيا، بما يتضمنه ذلك من ضرورة تركيز القدرات والموارد الأمريكية فى تلك المنطقة لاحتواء قوة الصين ونفوذها المتناميين. ومن جهة أخرى فإن برنامج التحديث الروسى قد يزيد من إمكانية حصول أطراف مناوئة للسياسة الأمريكية، فى الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية خاصة، على أسلحة روسية متطورة ترفع تكلفة احتواء هذه القوى. عدّت الولاياتالمتحدة أن الاقتصاد هو نقطة الضعف الرئيسية التى يمكن من خلالها تقويض برنامج التحديث العسكرى الروسى، مستغلة أزمة أوكرانيا، إلا أنه رغم سياسة العقاب الاقتصادى التى انتهكتها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الأوروبيون تجاه روسيا تحت زعم الدفاع عن سيادة أوكرانيا فقد كان التأثير الأكثر ضررًا بروسيا هو الناجم عن التراجع الكبير فى أسعار النفط، حيث تراجعت إيرادات روسيا من العملة الصعبة بسبب ضعف تنويع هيكلها الاقتصادى الذى يعتمد بشكل رئيسى على صادرات النفط والغاز. وبالنظر إلى أن تغيير هذا الضعف الهيكلى لا يمكن تحقيقه فى الأمد القصير، فإن مؤشرات التماسك التى أظهرها الروبل الروسى الأسبوع الماضى، قد تكون خادعة إذا ما عُدّت مؤشرًا إلى مستقبل الاقتصاد الروسى. وفى ظل السيناريو المرجح لاستمرار أسعار النفط دون الحد الذى يضمن لروسيا، من جهة، الحفاظ على معدلات الإنفاق الدفاعى المرتفعة نسبيًّا، والتى قد يتعين أن تتجاوز 4% من إجمالى الناتج المحلى الإجمالى سنويًّا لتنفيذ برنامج التحديث العسكرى، ومن جهة أخرى، عدم الإضرار بشدة بالإنفاق على المجالات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى قد يتعيَّن على روسيا البحث عن دعم مالى وتكنولوجى خارجى. وبالنظر إلى العقوبات الغربية الراهنة، وحقيقة أن صندوق النقد الدولى يبقى مؤسسة غربية بالأساس، فإن خيارات روسيا ستنحصر فى الصين التى يرجح أن لا تتردّد كثيرًا فى تقديم هذا الدعم لاعتبارات استراتيجية تتعلَّق باستنزاف القوة الأمريكية عالميًّا، وأخرى اقتصادية تتعلَّق بما تمتلكه روسيا من موارد طبيعية مهمة تطمح الصين فى الحصول عليها بأسعار منخفضة. وقد أعربت الصين بالفعل عن استعدادها لتوسيع اتفاق برنامج تجارة بالمقايضة وقّعه الطرفان مؤخرًا بقيمة 24 مليار دولار، فى إطار مسعى صينى للعب دور أكبر كمقرض دولى للبلدان التى تواجه أزمات مالية، ما يؤشّر إلى بروز نواة جنينية لنظام مالى عالمى بديل للنظام الرأسمالى الغربى القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد عرضت الصين بالفعل فى هذا الإطار تقديم عدة مليارات من الدولارات لدعم كل من فنزويلا والأرجنتين اللتين تعانيان أزمات مالية، ولم يمكنهما لأسباب مختلفة اللجوء إلى الأسواق الماليةالغربية، وبالتالى يبدو أن المواجهة الروسية-الغربية ستدفع باتجاه تعزيز موقع الصين كقطب عالمى يحدّد بشكل كبير إمكانيات بروز نظام عالمى جديد. وفضلًا عن ذلك يُرجّح أن لا يستمر الموقف الأوروبى موحدًا خلف السياسة الأمريكية إذا ما وفّرت روسيا ضمانات للقوى الأوروبية الرئيسية بشأن عدم محاولة التوسُّع بشكل متزايد فى أوكرانيا أو لاحقًا فى منطقة البلطيق، ويبدو أن ألمانيا قد تقود هذا التوجُّه مع عدد من دول شرق أوروبا حديثة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، خصوصًا المجر وبلغاريا اللتين أضيرتا بشدة من تعليق تنفيذ خط غاز السيل الجنوبى الذى كان يستهدف نقل الغاز الروسى إلى أوروبا عبر البحر الأسود. وفى الخلاصة يرجح أن تسرع المواجهة الروسية-الغربية الحالية التحولات القطبية فى النظام الدولى الراهن بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، بما سيكون لذلك من تداعيات غير محدودة على السياسات الإقليمية حول العالم، والتى لن يكون الشرق الأوسط بمنأى عنها.