رفع البنك المركزى الروسى سعر الفائدة الرئيسى على «الروبل» بشكل دراماتيكى وبنسبة تصل إلى 7.5% خلال أقل من أسبوع، حيث رفع البنك المركزى أسعار الفائدة ب1% يوم الخميس 11 ديسمبر 2014، لتصل إلى 10.5%، ثم عاود رفعها ب6.5% يوم الإثنين 15 ديسمبر 2014، أى بعد أربعة أيام فقط، فى مؤشّر جلى إلى عمق الأزمة التى يواجهها الاقتصاد والضغوط الحادة على سعر الروبل الذى تراجعت قيمته بما يزيد على 40% منذ بداية العام. نتجت هذه الضغوط على سعر العملة الروسية من آثار العقوبات الأمريكية-الأوروبية المفروضة على الاقتصاد الروسى فى إطار المواجهة بين الجانبين بشأن التطورات السياسية فى أوكرانيا، والدور الروسى فيها، إلا أن الأثر الأكثر جسامة كان ذلك الناتج عن انخفاض أسعار النفط بنسبة تفوق ال40% منذ شهر يونيو الماضى، حيث يُعد النفط أهم صادرات روسيا والمصدر الرئيسى لإيرادات البلاد من العملة الصعبة. وعلى الرغم من أن تلك الإجراءات النقدية، إضافة إلى تدخل البنك المركزى الروسى لبيع جزء من احتياطياته من الدولار، حدَّا من انهيار الروبل، فإنه لا يتوقع أن تحد تلك الإجراءات من التداعيات السلبية للعاملين السابقين -العقوبات وتراجع أسعار النفط- على الاقتصاد الروسى فى ظل هيكله الحالى الذى يعتمد بشكل أساسى على صادرات النفط. وقد بات مؤكدًا أن تواجه الميزانية الروسية لعام 2015 عجزًا كبيرًا، حيث يستلزم توازنها سعرًا لبرميل النفط يتراوح حول 105 دولارات، بينما يتراوح متوسط السعر المتوقع فى عام 2015، حسب التقديرات المتفائلة، حول 80 دولارًا للبرميل، مما يعنى أن الميزانية الروسية ستواجه عجزًا لا يقل عن 20%، بل وقد يصل إلى 40% حال استمرت مستويات الأسعار الحالية التى تتراوح حول 60 دولارًا للبرميل. وستواجه روسيا حتمًا مشكلة فى تمويل هذا العجز إذا ما استمرت العقوبات الغربية، مما يعنى أن الحكومة الروسية ستجد نفسها مضطرة إلى التخلّى عن جزء من مشاريع الإنفاق المخططة العام المقبل. وتبقى المخاطر الأبعد مدى تتمثَّل فى احتمال دخول الاقتصاد الروسى فى حالة من الركود، بل والانكماش، نتيجة التقييد الاستثمارى الذى سينشأ عن أسعار الفائدة المرتفعة وضعف الاستثمارات الخارجية، فضلًا عن تباطؤ برنامج تحديث الصناعة الروسية وتنويعها، حيث يعتمد هذا البرنامج فى جزء كبير منه على استيراد تكنولوجيا حديثة من دول غرب أوروبا، خصوصًا ألمانيا. ومع كون العقوبات الغربية إجراءً مقصودًا، فإن جزءًا مهمًّا من التحليلات المعنية يذهب كذلك إلى افتراض أن إحجام دول أوبك عن خفض إنتاجها فى مواجهة أسعار النفط الآخذة فى التراجع يُعد سياسة مقصودة من قبل الولاياتالمتحدة وحلفائها من دول الخليج العربية، خصوصًا المملكة العربية السعودية، كأسلوب للضغط على كل من إيرانوروسيا. وبغض النظر عن مدى صدقية هذا الافتراض، فإن منطق الضغط على روسيا بالأداة الاقتصادية رغم فاعليته البادية حتى اللحظة فى الإضرار بالاقتصاد الروسى، تواجه جدواه فى أن يأتى بآثاره السياسية المرجوة شكوكًا كثيرة، سواء فى ما يتعلق بإجبار روسيا على التراجع عن سياستها الداعمة للانفصاليين الروس فى شرقى أوكرانيا، أو فى ما يتعلق بإثارة حالة إحباط لدى المواطنين الروس بما يمكن أن يطيح بالرئيس فلاديمير بوتين. أما تراجع روسيا عن موقفها من دعم الانفصاليين الروس فى شرقى أوكرانيا، فمن غير المتوقع حدوثه من دون ضمانات أمريكية-أوروبية بعدم استمرار السعى لضم أوكرانيا إلى الفضاء السياسى والأمنى الأوروبى، وهو ما تعتبره روسيا العامل الأساسى وراء تفجر الأزمة ومحاولة لحصارها حتى فى مجالها الحيوى، الذى كان يتضمن قدرتها على الوصول إلى البحر الأسود والمياه الدافئة، مما استدعى ضمّها إلى شبه جزيرة القرم. وأما الرهان على إحباط الروس والإطاحة بالنظام الروسى القائم فيتغافل عن حقيقتين: أولاهما، أن سياسة بوتين ذاتها تجاه أوكرانيا كانت هى العامل الأبرز فى التصاعد الكبير فى شعبية بوتين داخليًّا خلال الأشهر الأخيرة، حيث يعتبر الروس تلك المواجهة شأنًا قوميًّا وتهديدًا لأمن بلادهم، وهى المشاعر التى عادة ما توحّد الشعوب خلف قيادتها السياسية. وثانيتهما، أن الروس خبروا أوضاعًا اقتصادية أشد سوءًا خلال تسعينيات القرن العشرين دون أن يؤدّى ذلك إلى ثورة داخلية. وفى الواقع فإن الروس يعتبرون أن التحسُّن الاقتصادى الذى شهدوه خلال الأعوام القليلة الماضية هو الاستثناء، وليس القاعدة. وإذا كانت الرهانات على سياسة العقاب الاقتصادى تبدو غير مضمونة فى السياق السياسى الروسى، فإن تكاليف تلك الرهانات تبدو مرتفعة جدًّا. وبداية فإنه يتوقع انتهاج روسيا سياسة تعزز استنزاف الولاياتالمتحدة والقوى الغربية، خصوصًا فى المواجهة الكبرى الدائرة فى سوريا حاليًّا. لكن يبدو كذلك أن نجاح سياسة أسعار النفط المنخفضة فى الدفع باتجاه تغيير سياسى حقيقى فى السلوك الروسى قد يستلزم الحفاظ عليها لفترة ليست بالقصيرة. وبالنظر إلى التوقعات بارتفاع الطلب على النفط خلال العام المقبل، فإن مواصلة تلك السياسة بشكل متعمد سيجعلها عالية التكلفة جدًّا بالنسبة إلى البلدان المنتجة للنفط، خصوصًا أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تبدوان أنهما الدولتان الوحيدتان من دول أوبك اللتان تمتلكان احتياطيات مالية تتيح لهما تحمل أعباء تلك السياسة من دون خفض جوهرى وخطير فى معدلات الإنفاق الحكومى. لكن الأثر الأبعد خطرًا لسياسة العقاب الاقتصادى لإحدى الدول الكبرى المراجعة فى النظام الدولى، أن ذلك سيكون درسًا مهمًّا لهذه القوى جميعًا، خصوصًا الصين، مما ينبئ باحتمالات زيادة الاستقطاب فى النظام الدولى، وتصاعد محاولات القوى المراجعة لتغيير قواعد هذا النظام، خصوصًا ما يتعلق منها بهيمنة الدولار.