استمر الاتجاه التنازلى لأسعار النفط لعدة أشهر متوالية، وانخفضت الأسعار بمقدار الثلث منذ يونيو الماضى. الأسعار قريبة حاليًّا من أدنى مستوياتها فى 5 سنوات، وبانخفاض سعر برميل النفط يبقى هناك رابحون وخاسرون. سلسلة من المفاجآت تحملها تلك القائمة، التى تكشف عن صراعات بعضها مستتر، فى حرب أسعار البترول. لغز المضاربات الأمين العام لمنظمة الدول المصدرة للنفط أوبك عبد الله البدرى، يرى أن عاملى العرض والطلب لا يبرران هذا الانهيار فى أسعار النفط، مشيرا إلى دور كبير محتمل للمضاربة فى هذا الوضع. منظمة أوبك ما زالت تحافظ على سقف الإنتاج نفسه منذ 10 سنوات، وهو بحدود 30 مليون برميل يوميا، بينما المنتجون من خارج المنظمة أضافوا نحو 6 ملايين برميل يوميًّا إلى المعروض. النفط الصخرى الذى ارتفعت معدلات إنتاجه بقوة فى السنوات الأخيرة فى الولاياتالمتحدةوكندا، الذى يقدر حجمه بثلاثة ملايين برميل يوميا، له تأثير على السوق، لكن كلفة إنتاجه عالية تصل إلى 70 دولارًا للبرميل. وكانت أوبك قد اتخذت قرارًا خلال اجتماعها فى نوفمبر الماضى بالإبقاء على سقف إنتاجها دون تغيير على الرغم من التراجع الكبير فى الأسعار، ما أسفر عن مزيد من التراجع. وترافق انهيار أسعار الخام إلى ما دون مستوى 60 دولارا، وهو المستوى الأدنى منذ أكثر من خمس سنوات، مع تراجعات قوية فى أسواق الأسهم فى دول الخليج. قائمة الرابحين يتندر البعض قائلين إن الرابح الأول نتيجة انخفاض سعر البترول هو السائق. انخفاض أسعار النفط ينجم عنه انتقال للثروة من البلدان المنتجة إلى البلدان المستهلكة، متمثلة فى كبرى الاقتصاديات العالمية مثل الولاياتالمتحدة ومنطقة اليورو واليابان والصين. وتحصل الشركات كذلك على هامش أكبر وتتحسن القدرة الشرائية للمستهلكين. فأسعار الوقود فى محطات الوقود الفرنسية، على سبيل المثال، فى أدنى مستوى منذ أربع سنوات. ويقول باتريك أرتوس، الاقتصادى لدى مؤسسة كاتيكسيس ، إن منطقة اليورو يمكنها بفضل تراجع أسعار النفط أن تستفيد من الأثر الإيجابى لتراجع اليورو على صادراتها من دون أن تتأثر بسبب ارتفاع أسعار الواردات ، وأن تأمل كسب نصف نقطة فى ناتجها المحلى الإجمالى خلال سنتين. ويشير معهد كو ركومنس إلى هبوط فاتورة الطاقة الفرنسية بخمسة مليارات يورو على الأقل خلال 2014، موضحًا أن الصناعة هى الرابح الرئيسى، ويتوقع أن تكسب مليارى يورو، أى أكثر من التسهيلات الضريبية من أجل تشجيع تنافسية التوظيف، التى تعتمدها الحكومة الفرنسية أساسًا للإنعاش الاقتصادى. ويقدر المحلل الاقتصادى لدى مؤسسة أى بى إن أمرو أن ما ستكسبه الدول المستوردة سيرفع نمو الناتج المحلى الإجمالى العالمى بمقدار 0.7%. ومع غياب الدعم الحكومى يشعر المستهلكون، خصوصًا فى بلدٍ مثل الولاياتالمتحدة، بكل تذبذبات أسواق الطاقة. اتجاه الأسعار الآن فى صالحهم. وهم ليسوا وحدهم، فشركات الطيران وأى صناعات أخرى تعتمد على الوقود فى نقل بضائعها من ضمن قائمة الرابحين أيضًا. سعر البنزين المنخفض له آثار اقتصادية تحفيزية، وهو ما دفع صندوق النقد الدولى إلى زيادة توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى العام المقبل إلى 3.5%، بدلا من تقديراته السابقة والبالغة 3.10%. سارة لادسلاو، الباحثة فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ترى أن الدول التى تستورد النفط تكسب، خصوصًا اقتصاد الدول التى تعانى أخيرًا مثل الاتحاد الأوروبى والصين هى دول رابحة. وفى حال استقرت أسعار البترول، وبالتالى البنزين، على هذه المستويات المتدنية نسبيا، تستطيع كل عائلة أمريكية أن توفر أكثر من 1100 دولار فى السنة، الأمر الذى سيكون له أثر تحفيزى على الاقتصاد، لأن هذه الأموال على الأغلب ستصرف على شراء بضائع أخرى. الخاسرون الكبار كما أن هناك رابحين، فهناك خاسرون للانخفاض الشديد فى أسعار البترول، أولهم الدول المصدرة للنفط. روب بارنيت، محلل بلومبرغ، يرى أن الدول التى تعتمد على النفط لدخلها الحكومى فى وضع سيئ، خصوصا إن لم يكن اقتصادها متنوع المصادر، وإن كانت الدول تعتمد على البترول فسيصعب عليها توفير نفس مستوى الخدمات لسكانها. فى تقرير عن منطقة الخليج، قالت وكالة ستاندرد آند بورز إن التراجع الأخير فى سعر المحروقات، وفى حال استمراره لفترة طويلة، سيكون له تأثير كبير . وتشكل العائدات النفطية لدول مجلس التعاون الخليجى الست 46% من الناتج المحلى الإجمالى. واعتبرت ستاندرد آند بورز سلطنة عمان والبحرين الأكثر تأثرًا. وزير الماليةالكويتى أنس الصالح، قال إن سعر 60 دولارًا لبرميل النفط يعنى عجزًا مؤكدًا فى ميزانية الكويت العام المقبل، وإن هذا السعر هو الأقرب للاعتماد فى ميزانية العام المالى الجديد. وأضاف الصالح أن الدولة قد تلجأ إلى الاقتراض من الاحتياطى أو الذهاب إلى السوق التجارية لتمويل مشروعات التنمية. فى سياق متصل، قال رئيس لجنة الميزانيات فى البرلمان الكويتى عدنان عبد الصمد، إن ميزانية البلاد ستسجل عجزًا قدره 2.8 مليار دينار أى نحو 10 مليارات دولار فى السنة المالية المقبلة فى ضوء التقديرات التى قدمتها الحكومة. خبر سيئ، خصوصًا أن الكويت تحقق فائضًا فى ميزانيتها العامة منذ عام 1995. غير أن دول الخليج ليست فى خطر ، حسب عدد من محللى سوق النفط، نظرا إلى الفوائض المالية التراكمية الكبيرة فى سجلتها فى السنوات الأخيرة التى شهدت ارتفاعًا لأسعار النفط. وجمعت هذه الدول احتياطات مالية تقدر ب2450 مليار دولار، راكمتها خلال السنوات الأخيرة بفضل ارتفاع أسعار الخام، وفق معهد المالية الدولية. يتوقع الخبراء أن سنتين أو ثلاث سنوات ستمر بسلام بالنسبة لهذه الدول، وسط نصائح لهذه الدول بتخفيض ميزانياتها، وتخفيض الدعم على أسعار الطاقة للحد من الهدر، الذى يفوق 60% فى هذا القطاع. أما إيران فإن تراجع أسعار النفط يضغط بشدة على ميزانيتها، ويتسبب فى عجز كبير متوقع اعتبارا من العام المالى المقبل. يقول الاختصاصى فى الأسواق الناشئة لدى مصرف إتش إس بى سى كريستيان ديزيجليز إن نصف الدول الناشئة ستتأثر سلبا بتراجع أسعار النفط. فالبرازيل استثمرت بكثافة فى المنشآت والبنى التحتية النفطية التى سيكون من الصعب عليها استعادتها، كما حددت روسيا ميزانيتها على أساس سعر مئة دولار للبرميل. غير أن التراجع الكبير فى سعر الروبل سيخفف الضغوط عن الميزانية. وتبدو المؤشرات كلها سلبية فى فنزويلا، التى تعانى أساسًا من اختناق مالى، ويشكل النفط 96% من مصادرها من العملة الصعبة. كما يؤثر تراجع النفط على استخراج الوقود الصخرى فى الولاياتالمتحدة، الذى يحتاج إلى استثمارات ضخمة للحفاظ على وتيرة الإنتاج. ويعتبر المحللون أن الاستثمار فى الوقود الصخرى ليس مجديا عندما يكون سعر برميل النفط بين 65 و70 دولارا. ومن المفارقات، فإن أحد الخاسرين الكبار هى شركات النفط الأمريكية العاملة فى ولايات مثل تكساس ونورث داكوتا، حيث تكلفة استخراج النفط فيها مرتفعة بالمقارنة مع دول خليجية مثلا. ويرى بارنيت أن سعر استخراج وضخ النفط يختلف من بئر إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، والبعض قادر على استخراج البرميل ب30 دولارًا، وآخرون بحاجة إلى 70 أو 80 دولارًا لاستخراج البرميل. الأغلى تكلفة هى رمال القطران فى كندا وبترول المياه العميقة البرازيلية. من ضمن الخاسرين أيضًا البيئة، حيث إن انخفاض سعر البنزين يؤدى إلى شراء المستهلكين سيارات كبيرة ذات استهلاك أعلى للوقود، حيث تشير الأرقام إلى ارتفاع مبيعات سيارات الدفع الرباعى بنسبة 16%، مقارنة مع العام الماضى، كما أن انخفاض سعر البترول أيضًا يقلص الجدوى الاقتصادية من استغلال الطاقات البديلة. يبقى خطر الانكماش قائمًا، تحديدا بالنسبة لمنطقة اليورو، حيث تراجع التضخم إلى 0.3% فى نوفمبر الماضى. والانكماش هو دوامة من انخفاض الأسعار والعائدات تؤدى إلى شلل اقتصادى. إلا أن المدير العام لمؤسسة ريكسكود ، دونى فران، يقول إن لانخفاض سعر النفط تأثيرا إيجابيا على القدرة الشرائية، وعائدات الشركات أكثر منه تأثير باتجاه إلى الانكماش . والسؤال المطروح: هل ستحتفظ الشركات بهذا التأثير الإيجابى باعتباره هامشا للتحرك، أم ستستفيد منه لمزيد من خفض الأسعار؟ وهذا سيدخلها فى دوامة خطرة.