نبكى هجرة عقولنا إلى الخارج، لكننا لا نبذل جهودا حقيقية لاستعادتهم، بل على العكس، يندرج العلماء ضمن فئة «المصريين المقيمين فى الخارج» الذين يصفهم إعلام المرحلة الحالية أنهم أداروا ظهورهم للوطن، وكثيرا ما يسلبهم الإعلام المتعصب، بل والجماهير، الحق فى الإدلاء بآرائهم فى الشأن العام المصرى، بحجة أنهم غير مقيمين فى البلد، أو أنهم نسوا ما بها أو أنهم لا يفهمونها، «إيه اللى ودَّاهم هناك؟» أو «إيه اللى رجعهم؟».. تساؤلات تبلور الشكوك بشأنهم، كأنما سقطت بالسفر هُويتهم أو ثقافتهم المصرية، دعونا لا ننسَ أنهم حتى لم يكن لهم حق التصويت قبل الثورة، وهو إهدار لحق أساسى من حقوق المواطنة. لا يتذكّر الإعلام العلماء المهاجرين إلا عندما تأتى سيرة الجوائز الدولية التى يحصدونها أو سيرة الفلوس والإسهام المادى الممكن لمساعدة البلد فى شكل تبرعات لمصر، وحينها يكثر الحديث عن وطنيتهم ودورهم القومى وأهميتهم لمصر، ازدواجية واضحة لا جدال فيها، فنحن نريد المكاسب المترتبة على إقامتهم فى الخارج دون قبول حقهم فى إبداء الرأى فى أحداث الداخل، نريد التقدير المعنوى الناتج عن حصدهم جوائز لمصر، لأنهم نشؤوا فى مصر، وتعلموا وترعرعوا بها قبل سفرهم، لكننا نرفض آراءهم المختلفة حول كيفية النهوض بمصر، أو لا نقبلها إلا من اثنين أو ثلاثة من الكبار، ومع ذلك نادرا ما نتساءل: لماذا خرجوا ولم يعودوا؟ وهذه النقطة تحديدا هى ما أودّ طرحها، حيث أتيحت لى الفرصة أن ألتقى علماء مصريين ممن استقروا فى دول خارج مصر بشكل مؤقت أو دائم، لأتحاور معهم بشكل مكثف حول حياتهم المهنية ومستقبلها، أسفرت المناقشات باختصار عن حلم كثيرين منهم بالعودة إلى أرض الوطن، بشرط أن تتاح لهم فرصة الإبداع والابتكار ومزاولة عملهم بحرية مع توافر الإمكانيات التى تتيحها لهم مؤسساتهم الحالية، مع وجود فروق بين توجهات مغتربى دول الخليج ومغتربى الدول الغربية. فى حواراتى مع علماء الجيل الوسيط فى الداخل والخارج كان السؤال الرئيسى: ناوى تقعد ولا تمشى؟ ، فهو كود المرحلة لشباب العلماء، تتعدد الأسباب ما بين تأمين المستقبل ماديا أو الرغبة فى حياة كريمة، خصوصا للأولاد، لكن يدور كلا الهدفين حول الاستقلال الذى قد لا توفّره الظروف الداخلية، والاستقلال هنا ليس بالمعنى السياسى فحسب، بل أيضا فى شكل الاستقلال العلمى أو الاقتصادى. غالبا ما ينجح المتفوق فى أى مكان، وغالبا ما كان هؤلاء النابغون لينبغوا فى مصر إن بقوا فيها، ربما بدرجة أقل، لكن بالتأكيد لم تخلق الغربة منهم شخصا مختلفا، ربما أضافت أبعادا وزوايا جديدة كانوا ليفتقدوها نتيجة القيود الذاتية ومحدودية استيعاب السياق الثقافى والعلمى، وهنا قد يتوقف الإبداع على يد صاحبه حتى لا يصطدم بالسقف، فهذا السقف تحديدا هو ما يمارس دورا طاردا للكفاءات، وليس بالضرورة فقر الإمكانيات.