أليس غريباً أن نسبة كاسحة من القيادات المنتمية للجماعات الدينية المتطرفة يعملون أطباء، ومهندسين، وصيادلة، وغيرها من التخصصات العلمية التطبيقية الأخري!. أليس غريباً أن نسبة كاسحة من طلاب الجامعات الذين يعتنقون أفكاراً متشددة، أو تكفيرية، وينتمي كثيراً منهم فكرياً أو تنظيمياً لجماعات دينية -وثبت على كثير منهم ممارسات تتسم بالعنف- أن يأتون أغلبهم من تخصصات وكليات علمية تطبيقية وخاصة كليات الطب والهندسة. قبل أن تشكك في صحة ذلك .. عليك أولاً أن تتفحص عينة ممثلة من المحيطين بك من تلك التخصصات؛ لتعلم علم اليقين أن نسبة ليست بالقليلة هكذا بالفعل، أوعلى أقل تقدير لديهم ميلاً دينياً متعاطفاً ومدافعاً عن أفكار هذه الجماعات حتي ولو لم يكن منتمياً إليها انتماءاً تنظيمياً بالمعني التقليدي. إنها حقاً مشكلة لابد من البحث عن حلول لها، ومن قبل عن أسبابها التي هي بالتأكيد لها أبعاد قد تكون أسرية، مجتمعية، دينية، سياسية، وفكرية وثقافية متشابكة؛ فقد يكون لطبيعة المحتوي العلمي أثراً مباشراً على شخصية من يدرسوه، ولاشك أن دراسة بعض التخصصات العلمية تضفي بعض السمات المتعلقة بها على شخصية من يدرسها مع مرور الوقت؛ فهي علوم في طبيعتها لاتحتمل الشك مثل العلوم الإنسانية التي هي متغيره بطبيعتها بتغير طبيعة الإنسان. فيتقولب دارسها بقالب من الجمود الفكري وثنائية التفكير القطعي على طريقة إما أبيض أو أسود، فلا يستطيع أن يدرك التدرجات المتباينة بين الأبيض والأسود. إن الجمود والجفاف والخواء الروحي التي تتركه دراسة التخصصات العلمية التطبيقية تعمل على أن تكون هناك حاجة ماسة لمن يدرسها أن يبحث عن مصادر بديلة كي يقاوم بها هذا الجفاف ويملئ هذا الخواء؛ ولاشئ أروع من أن يمتلئ ذلك الفراغ بجوانب روحانية ومطلقات لا يمكن التشكيك فيها من أهمها وأعظمها هو الدين ! أو أن يرهف حسه بدراسة وكتابة الشعر والآدب أو الموسيقي وضروب أخري من الفنون. وهذا ما يفسر لنا وجود نماذج كثيرة من الأطباء والمهندسين والصيادلة والعلميين نبغوا في تلك المجالات بجوار تخصصهم وكثيراً منهم قد تخلي عن مهنته ليصبح إما داعية إسلامي أو منشداً أو فناناً أو شاعراً أو صحفياً أو أديباً... الخ والمتأمل لواقع وتكوين الجماعات المنغلقة يستطيع أن يعرف بكل بساطة أن واحدة من أسرار بقاء هذه الجماعات والعيش طويلاً تكمن في المقام الأول في قدرتها على محاصرة المنتمين إليها بدستور عمل خاص بها وبأسوار عالية تمنعهم من أن ينظروا خارجها لأنه مجرد بقاءهم خارج هذه الأسوار معناه تهديد مباشر لبقاء الجماعة، ومن ثم تجد أنهم محاصرون ومأمورون بقراءات محددة وبمراجع محددة . وياحبذا لو تم ذلك في وقت مبكر في حياتهم؛ لذا تجد أن جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين تهتم اهتماماً بالغاً باستقطاب هؤلاء من مرحلة الطفولة الباكرة كي يتم تشكيلهم على النحو التي تراه فتنفق ملايين الجنيهات على إنشاء المدارس والمساجد ودور تحفيظ القرآن والجمعيات الخيرية ... إلخ من أجل تحقيق هذا الهدف في المقام الأول , حتي من لم يتربي تربية اخوانية من الصغر تسعي أن تستقطبهم في مراحل عمرية تتسم بالأزمة ولاسيما مرحلة المراهقة وهي مرحلة البحث عن الهوية وهذا ما يفسر لنا الحرص الدائم من جماعة الاخوان المسلمين عبر عشرات السنين على استقطاب طلاب المرحلة الثانوية والفرقة الأولي بالجامعة ... ومن منا لم يتم استمالته يوماً ما ! ! وما أروع هذا الصيد الثمين حين تمر الفريسة بمرحلة أزمة نمائية وفي ذات الوقت قد تمر بأزمة مادية طاحنة لتأتي من أسر ومجتمعات لاتعرف سوي الفقر والمرض والجهل.. وتبدأ الجماعة فوراً بتوفير كل الدعم اللازم لها من مساعدات مالية للأسرة وملابس ومراجع ومسكن ملائم لهذا الطالب المغترب والتي لم توفر له الدولة سكناً بالمدينة الجامعية. وبمرور الوقت يصبح هذا الصيد الثمين متشبعاً بأفكار تلك الجماعة ومؤمناً بها إيماناً لا يقبل الشك ويكون ممتناً- بل وأثيراً - لفضلها أبد الدهر ولا يتواني لحظة من أجل رد الجميل في الوقت الذي يُطلب منه ذلك أو لا يطلب. وتحرص دائماً مثل تلك الجماعات أن تقوي وتعلى هذه الأسوار كي تحمي أفرادها من المؤثرات الخارجية والمهددات ولا بأس بمدارس ومساجد وجمعيات ونوادي تابعة لهم حتى تكتمل المحاصرة والحماية من أسلحة الدمار الشامل التي تنتظرهم بالخارج! ! كما قلت من قبل هذه الأسلحة الفتاكة هي: الفنون والآداب والثقافة بشتى صورها، والنزعة للتفكير النقدي والإبداعي،وتعدد الآراء والانفتاح على الخبرات، وعدم المسايرة ، والاستقلال الفكري. والتعليم الجيد القائم على الفهم والتحليل والمستويات العقلية المعرفية العليا وليس التعليم القائم على الحفظ والاستظهار دون وعي وفهم. ومن الغريب والمستهجن أن المجتمع المصري ومؤسساته التعليمية لا يعترفون بأي شئ سوي الدرجة التي يحصل عليها الطالب وأن معيار النجاح والتفوق والإبداع وحسن الخلق بل وكل شئ يختزل فقط في هذه الدرجة.وحقيقة الأمر أنها لا تعبر عن أي إمكانية أو سمة أو مقدرة حقيقية. فما هي القيمة والنفع والمنتج النهائي لمن يحصل على 100% ليدخل كلية الطب والصيدلة والهندسة ويتحول إلى إرهابي وعدو لمجتمعه ومخرباً له. وعلى العكس قد يكون الذي حصل على 50% وفقد احترام مجتمعه خادماً لوطنه ونافعاً له. ولو كان المعيار الحقيقي هي الدرجات والوصول إلى كليات تعرّف دائماً بأنها كليات القمة.. فها هي أغلب الجماعات الدينية المتطرفة أو المتقوقعه على ذاتها مثلها مثل بقية الأقليات في أي مجتمع تعاني من مشاعر الدونية وعقدة النقص والاضطهاد وتجعلهم على نحو نفسي يفرطون في التعويض ويستميتون كي يحصلون على أعلى الدرجات. فلايخلو منهم أستاذاً جامعياً أو طبيباً أو مهندساً .. أو.. أو .... إلا أنك نادراً أن تجد بينهم عالماً أو كاتباً أو مفكراً استطاع أن يقدم شيئاً لوطنه. وهذا ماحدث بالفعل عند وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم؛ فقد فوجئ الجميع أنهم لا يملكون شيئاً على الاطلاق .. بالرغم أن الغالبية الكاسحة منهم أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين ورجال أعمال ... إلخ. لكنهم لايملكون إبداعاً ولا فكراً متجاوزاً. والسر في ذلك أنهم عبر سنوات تم صبهم في قوالب جامدة قتلت لديهم كل قدرة على التجديد والإبداع والمرونة العقلية التي تسمح وتتيح للإنسان أن يُقدم الجديد دائماً . إنه الجمود العقلي ولا شيئ سواه ! والخطورة الحقيقية في نظري لا تكمن فقط في بناءهم لأجيال من الشباب مشوهة وعقيمة فكرياً وغير قادرة على الانتاج والانخراط في الوطن ولكن تكمن في أنهم شكلوا لنا قنابل موقوته من أجيال مغتربة عن واقعها ولا يوجد لديها ولو ذرة واحدة لانتماء حقيقي لهذا الوطن إذ أن الوطن مفهوماً غائباً في فكرهم ولم يعلموه لهم زاعمين أن فكرتهم وأهدافهم السامية المزعومة عالمية ومتجاوزة لحدود المكان؛ وبالتالي لا غرابة أن تجدهم لا يعبئون بالتفريط في قطعة من هذه الأرض هنا وقطعه منها هناك؛ إذ أن الوطن لديهم ليس سوي سكن تستطيع أن تغيره كيفما تشاء ووقتما تشاء حيث تتحقق مصالحك. وهذا هو السبب الحقيقي في تخريبهم عمداً مع سبق الاصرار لوطنهم والتآمر عليه مع حفنة من قوي الشر وأعداء الوطن؛ بل وأعداء الإسلام . إن هذا الفكر الشيطاني الخبيث لن يتم القضاء عليه بالحلول الأمنية فقط رغم أنه من الحلول الهامة ولكن الأهم من ذلك وبالتوازي معه هو التركيز على إصلاح ما تم إفساده في فكر الشباب والنشئ ووضع خطة قومية شاملة لمحاربة التطرف. أولى خطواتها القضاء على الثالوث الأذلي اللعين: الفقر والجهل والمرض، وإعادة النظر في المناهج التعليمية الحالية والاهتمام بنشر الفنون والآداب والثقافة التي تغذي الفكر وترهف الحس وتسمو بالروح وتهذبها. ولتعود لها طريقاً من جديد في المدارس والجامعات ودور الثقافة. أيضاً تفعيل دور الأزهر الشريف ليعود إلى سابق دوره الرائد وليكن المؤسسة الدينية الوحيدة في مصر المخولة بنشر الوعي الديني المعتدل بين المسلمين.