يعد إقصاء الآخر المختلف خاصية لصيقة بأصحاب الفكر الشمولي العقائدي سواء كان ذلك الفكر يمينيا دينيا أو يساريا ماركسيا أو ما بين هذا وذاك. ولا ترجع هذه الخاصية إلي عوار أخلاقي أو تشوه نفسي بل علي العكس فأصحاب هذا الفكر الشمولي قد يكونون الأكثر إقداما علي التضحية والإيثار. ولكن المشكلة تكمن في أحادية نظرتهم إلي الكون والبشر والتاريخ; فهم يعتمدون علي مصدر أساسي واحد يستقون منه معلوماتهم و يشكل وحده مرجعيتهم الفكرية ويوقنون يقينا لا يداخله شك في امتلاكهم للحقيقة كاملة تامة غير منقوصة لا تحتاج إلي مراجعة أو إعادة نظر. و لذلك فليس من المستغرب علي هؤلاء أن تضيق نظرتهم فيصنفون الآخر وفقا لانتمائه الفكري دون نظر إلي سلوكه وأدائه الفعلي, وتضيق صدورهم بأولئك الذين ينادون بحتمية تعدد الرؤي وبنسبية الحقيقة وبحق الخطأ, وقد يبلغ الأمر بأصحاب الفكر الشمولي حد اعتبار أن الليبرالية خطر حقيقي يهدد ثوابت المجتمع ويشوه هوية الوطن ومن ثم ينبغي إقصاء أتباعها فكريا بل بدنيا إذا ما لزم الأمر. قد يكون ذلك الموقف الإقصائي منطقيا في إطار الفكر الشمولي; ولكن الأمر يصبح مستوقفا للنظر إذا ما انزلق الليبراليون إلي تلك الغواية التي تتعارض مع منطلقاتهم الفكرية القائمة علي التعددية وحرية الرأي والمنافسة, فإذا بهم يصنفون الآخر وفقا لانتمائه الفكري دون نظر إلي سلوكه وأدائه الفعلي, ويطالبون بإقصاء ذلك الآخر المتمثل في أصحاب الفكر الشمولي مستندين إلي نفس الأسباب أي باعتبار الفكر الشمولي وأصحابه يمثلون خطرا حقيقيا يهدد ثوابت المجتمع ويشوه هوية الوطن. لقد شهدنا لسنوات طوال من يتصايحون عند إسناد منصب لشخص معين سواء في مجال الإعلام أو الإدارة محذرين منه باعتباره شيوعيا أو إخوانيا حتي لو لم يكن كذلك, و دون انتظار لطبيعة أدائه, بل دون الاستناد إلي ما قد يشين تاريخه العملي, وحتي لو لم يسبق أن امتدت يده إلي المال العام ولم تحم حول سمعته الشخصية الشبهات; بل يكفي الاستناد إلي تاريخه الفكري لإدانته والتحذير منه والعمل علي إقصائه. إن حقيقة أن الموقف الإقصائي لا يقتصر علي أصحاب الرؤي الأحادية قد ثبتت بشكل علمي منذ عام1993, ومن خلال مقياس أحادية الرؤية الذي شاركت أستاذي الراحل رشدي فام منصور في تصميمه; الذي قام عدد من أبنائنا بالاعتماد عليه في إنجاز أطروحاتهم للحصول علي درجات الماجستير والدكتوراه في علم النفس. ولكن يبدو أن الحقيقة العلمية الجافة الباردة التي ترصدها البحوث في صورة جداول إحصائية دقيقة ومضبوطة, يختلف وقعها حين تتجسد في الواقع الاجتماعي الشخصي الحي. ولذلك فقد صدمني المشهد الراهن كما لوكان أمرا جديدا مستغربا. لقد أسفرت الانتخابات عن فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين رغم التاريخ السياسي الملتبس للجماعة ورغم تذبذب مواقفها حيال السلطة, ورغم ما يكتنف حجم عضويتها وتمويلها من غموض. رغم كل ذلك فقد اختارتها الغالبية النسبية للمصريين; وكانت المفاجأة أن ثمة أصدقاء أفاضل لا أشك لحظة في إخلاصهم للوطن ولا يستطيع منصف إنكار انحيازهم للدولة المدنية و للفكر الليبرالي; إذا بهم وقد أفزعتهم نتيجة الانتخابات يندفعون إلي تبني ما يبدو متعارضا تماما مع جوهر الفكر الليبرالي وأسس المجتمع المدني, فقد احتج البعض بأن فوز مرشح الإخوان المسلمين كان بفارق أصوات ضئيل متناسين أنه علي الرغم من صحة ذلك فإن أحدا من مفكري المجتمع المدني الديمقراطي لم يشترط حصول الفائز علي نسبة معينة من الأصوات. ووصل الأمر بالبعض إلي القول إن نتيجة الانتخابات كانت اختيارا خاطئا من جمهور متخلف أمي وأنه لا ضير من أن تقوم النخبة بتصويب المسار, متناسين أن فكرة الانتخابات بصورتها الجماهيرية الراهنة كانت من إنجازات الليبرالية الأوروبية; في حين أن الاختيار النخبوي للحاكم والذي يقتصر علي رأي أهل الحل والعقد ينتمي إلي مرحلة ما قبل التنوير الليبرالي التي كرست تصويت العامة دون قيود. ويطالب بعض الأصدقاء بتفعيل قرار قديم لمجلس قيادة ثورة يوليو52 يقضي بحل جماعة الإخوان المسلمين وحظر نشاطها ومصادرة ممتلكاتها, متناسين أن حق المتهم في محاكمة عادلة أمام قاضيه الطبيعي واحد من أهم أسس المجتمع المدني. لقد استثمرت جماعة الإخوان المسلمين في سبيل وصولها للسلطة تاريخا طويلا من الخدمات الاجتماعية والطبية والتعليمية التي رسخت شعبيتهم, كما استثمرت تعاطف قطاعات من المصريين مع الجماعة باعتبارها جماعة مضطهدة; و لكن شيئا من ذلك لم يضمن لها فوزا كاسحا في الانتخابات; ولعل تلك الحقيقة تؤكد أن كل الاحتمالات واردة في الانتخابات المقبلة. وإلي أن يحين وقت تلك الانتخابات فلا سبيل لكسب الجماهير بكلمات أو بشعارات مهما يكن صدقها ومهما يكن إخلاص أصحابها. ولا جدوي من العودة بعجلة التاريخ للخلف بحثا عن دكتاتور عادل. لا سبيل سوي تأكيد احترام إرادة الجماهير و الالتصاق بها مع الاستمرار في النقد الموضوعي للسلطة القائمة. المزيد من مقالات د. قدري حفني